تعديل

السبت، 30 ديسمبر 2017

فتيا عزيزة في الدوران بالعرائس في القرية

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الدَّوران بالعروس في موكبٍ من المراكب عادةٌ شائعة جدًّا في هذه الأزمان، قلَّ عرس من الأعراس لا يُعمل فيه بمثل هذه العادة، وقد وقفتُ على فتيا عزيزة في شأنها، تدلُّ على أنَّها وُجدت في النَّاس منذ أكثر من ثلاثمئة سنة، فأذكر نصَّ الفُتيا ثمَّ أُتبعها بما يليق بها من تعليق.

سئل أبو عليٍّ الحسنُ بن مسعود اليوسي المالكي المتوفي سنة (1102) ـ وهو عالمٌ متفنِّن متضلِّعٌ من العلوم العقليَّة، من علماء النِّصف الثَّاني القرن الحادي عشر، وكان على توسُّعه في العلوم، وضربه بسهامٍ صائباتٍ في أنواع الفنون صُوفيًا خرافيًّا، وترجمتُه مطولَّة محسَّنة في «الإعلام بمن حلَّ بمراكش وأغمات من الأعلام» (3/154-163) ـ عن عوائد بعض القبائل في الأعراس، ومنها الطَّواف بالعروس على القرية في شبيهٍ بالهودج يسمَّى «الجحفة»، فأجاب كما في رسائله (صحيفة/622ـ الرِّسالة السِتُّون):


«ودورانُها على القرية ليس من السُّنَّة، وكأنَّ مرادهم به النِّهاية في الإشهار، فلا حاجة إلى فعله، وإن فعله غيركم فلا تعيِّروه فإنَّه ليس بحرام» اهـ.


فهذه فتياهُ، وهي كما ترى مختصرة محرَّرة، وقد تضمَّنت أمورًا أربعة:


الأمر الأوَّل: بيان أنَّ هذا العمل ليس من السُّنَّة، ولا من هدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا يُشرع فعله اقتداء وتسنُّنًا، أو الإنكار على من يتركه.


الأمر الثَّاني: بيانُ السَّبب الحامل لمن يفعله على فعله، وهو المبالغة في الإشهار والإعلان الَّذي هو سنة النِّكاح، وفرقٌ بينه وبين السِّفاح، فقد أمر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بإعلان النِّكاح والإشهاد عليه، وعمل الوليمة ودعوة النَّاس إليها تحقيقًا له، لكن لمَّا كان الإعلان حاصلًا من دون هذا التَّطواف لم يكن ممَّا يُؤمر به أو يستحبُّ عمله.


الأمر الثَّالث: حكمُ هذا العمل، وهو أنَّه عبثٌ لا حاجة إليه، هذا إذا كان دورانًا مجرَّدًا خاليًا من المحاذير، فقال إنَّه لا حاجة إليه، واختار لمن سأله عنه أن لا يفعله، وكثيرٌ من النَّاس اليوم يفعلونه ويضمُّون إليه من المنكرات شيئًا كثيرًا من أذيَّة الناس في طريقهم، وإظهار المعازف المحرَّمة، والهيشات الطَّائشة الَّتي لا تليق بأهل الإسلام وشبابه، فهو مع هذه المناكير لا شكَّ في قبحه والنَّهي عنه والإغلاظ على أهله.


ولو فُرض خلوُّه منها بأن يسيروا كسير النَّاس سيرًا معتدلًا بغير أذيَّة لأحدٍ ولا إظهار لشيء من المنكرات فالحكمُ أنَّه جائز، ومع جوازه فلا حاجة إليه وتركُه أفضل من فعله.


الأمر الرَّابع: هو أنَّ من فعله فلا يعيَّر ولا يُنكر عليه، لأنَّه لم يفعل حرامًا، وهذا تنبيهٌ مهم جدًّا، وهو أنَّ النَّاس إنَّما يُنهون عن المحرَّمات الَّتي جاء الشَّرع بالنَّهي عنها، أمَّا ما يتركه الإنسان في خاصَّة نفسه طلبًا للكمال أو تورُّعا من الشُّبهات فلا يصلح أن يُنهى النَّاس عنه، وإنَّما يرشد من استرشده إلى الأكمل والأليق إن كان أهلًا لأن يرشد إلى ذلك، ومن فعل خلاف ذلك فلا يُنكر عليه، ولا يضيَّق عليه فيما لم يضيِّقه الشَّرع.
ويتأكَّد هذا في مواطن التَّخفيف كأن يتعلَّق الأمر بضعفة التَّديُّن من النِّساء والولدان، أو بأحوال خاصَّة كالأعراس والأعياد الَّتي يُشرع فيها التَّوسعة وإظهار السُّرور.


فالدِّين والشَّرع على مرتبتين:
مرتبة الأمر والنَّهي الملزم الَّذي يؤخذ به كلُّ النَّاس، ويتعلَّق الأمر والنَّهي فيه بالعامَّة والخاصَّة.
ومرتبةٌ هي التَّرقِّي في درجات الكمال بالمثابرة على المستحبَّات وترك المكروهات والمشتبِهات، بل وبعض المباحات، فهذ لا يُؤمر بها كلُّ أحدٍ في كلِّ حال، بل يُؤمر كلُّ أحدٍ منها بما يليق به وبحاله.


وتكميلًا للفائدة فهذه فُتيا شيخنا أبي عبد المعزّ محمَّد علي فركوس ـ صان الله كمالَه ـ في هذه المسألة (وهي في موقعه برقم: 585):


«الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا كان التِّجوالُ بالعروس من باب الإعلان عن النِّكاح فلا بأس بذلك، بشرط أن لا يكون فيها مخالفات شرعية، كبروز النِّساء متكشِّفات على السيَّارات، أو ما يصحب ذلك من مختلف المزامير والطُّبول والمنبِّهات الَّتي تزعج النَّاس عـمومًا، وفي فترات القَيْلُولة خصوصًا، فإنَّ مثل هذا الضَّرر يلحق بالنَّاس، والضَّرر ينبغي أن يُزال، كما جاء في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ»اهـ


آخــرُ المقال، والحمد لله جلَّ عن النَّظير والمثال.