تعديل

الخميس، 1 فبراير 2018

التعليق المرصَّع على أكثر من مائة موضع من المقالات الأربع

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم


الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
أمَّا بعد:
فإنِّي منذ زمنٍ لا أزالُ أتجنَّب الشَّيخ عبد المجيد جمعة، وأحرص على أن لا يكون لي به صِلَة، ومع ذلك فقد شاء تعالى أن أُبتَلى بالتَّصادم معه، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وما حالي وأنا أكتبُ هذا التَّعليق إلَّا كما قال الشَّاعر:

فكيفَ الفِرارُ إذا ما اقْتَرَبْ
أفــرُّ من الشَّـرِّ في رِخْـــــــوِهِ 
فالحمد لله على ما قَدَّر وقَضَى.

كتبَ الشَّيخ جمعة في الردِّ على جوابي عن رسالته إليَّ أربعَ حلقاتٍ، لا أريد أن أصفها لك الآن حتى تكون أنت من يحكم عليها بعد قراءة هذا التَّعليق، غير أنِّي أقول: إن هذه الحلقات مثالٌ واضحٌ وصحيحٌ لكلمة جليلة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال في كتابه «الصَّفدية» (1/54): «القول الباطل لا يكون عليه دليلٌ صحيح»، فالرَّجل إذا قام في نصرة قولٍ غير صحيح واحتاج إلى الاستدلال عليه والردِّ على ما يقدح فيه فإنَّه لا يمكن أن يأتي عليه بدليل صحيح، بل يكون كما وصف الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)، قال الشَّيخ السَّعدي رحمه الله في «تفسيره»: وهكذا كلُّ من كذب بالحقِّ، فإنَّه في أمر مختلط، لا يُدرى له وجهةٌ ولا قرار، فترى أموره متناقضة مؤتفكة، كما أنَّ من اتَّبع الحقَّ وصدَّق به قد استقام أمره، واعتدل سبيله، وصَدَّق فعلُه قِيلَه».

سأقف مع هذه المقالات ـ إن شاء الله ـ وقفاتٍ منهجيَّة، أطرِّزُها بنُكَتٍ علميَّة، وفوائد أدبيَّة.
وحرصًا على تسهيل الوقوف على الغرض فإنِّي سأجمعها متتابعة في أعلى الصَّفحة، وأجعل كلامي تعليقًا في الحاشية أسفلَ الصَّفحة، فما كان من الكلام فوق السطر فهو كلامه كما أثبته في نشراته، لا أتصرَّف فيه بشيء، وما كان أسفل الصَّفحة فهو من كلامي.

وهنا وقفةٌ وتنبيهٌ واعتذار: 

أمَّا الوقفة فمع عنوان المقالات، وهو: «جواب الجواب وردع الطَّاعن العيَّاب»، فاعلم أخي! ـ وفَّقك الله ـ أنَّ مدلول هذا العنوان غيرُ صحيحٍ ولا مطابقٍ للواقع، لأنَّه ينعتني بالطعَّان العيَّاب لكونِي طعنتُ فيه فيما زعم أكثر من ثلاثين طعنة، والحقيقة أنِّي لم أطعن فيه طعنةً واحدةً فضلًا عن ثلاثين، فقد كنت في جوابي كلِّه ألتزم الحكمَ على أقواله وأفعاله، وأتجنَّب الحكم على شخصه، وارجع أخي الكريم! إلى جوابي، لترى كيف أنِّي تجنَّبت إطلاق الأحكام والنُّعوت عليه، وكنتُ أحكم على أقواله وأفعاله ومواقفه، فأقول: هذا تحريش، وهذا ظلم، وهذا كذا...، ولا أقول: مُحرِّش أو ظالم...، ومعلومٌ في مباحث الاعتقاد الفرقُ بين الأسماء والأحكام، وهذا بخلافِ ما عمله هو، حيث ملأ كلامه ـ من قبلُ ومن بعدُ ـ بالسبِّ والشَّتم والأوصاف القبيحة، مُطلِقًا إيَّاها على الشَّخص لا على الأقوال والأفعال، وهذا ظاهرٌ من عنوان المقال فضلًا عن حشوه، فأيُّنا أولى إذن بوصف الطَّاعن العيَّاب؟!
نعم، الذي وقع منِّي هو أنِّي سمَّيتُ الأمور بأسمائها، وآثرتُ التَّصريح بدل التَّلميح لأنِّي رأيت المقام يقتضي ذلك، وعُذري فيه واضحٌ، فإنَّه تكلَّم في إخوانه بكلامٍ شديدٍ، وكان سببًا في فتنةٍ عظيمةٍ وفُرقة شديدة، فلم يظهر مناسبًا إلَّا ذلك الأسلوب الَّذي اتَّبعته، ولقد أوقفني أحدُ إخواني على رسالةٍ كنت كتبتُ بها إليه قبل سبع سنوات، أعتبر أنَّها تُمثِّلُ المنهج الَّذي سِرتُ عليه ولا أزال ـ إن شاء الله ـ في النَّقد، وممَّا قلتُه فيها: «الحاملُ لي ـ عَلِم الله ـ على هذا الردِّ أنِّي رأيت (فلانًا) يُعلِّق على عدَّة مقالاتٍ بتعليقاتِ جاهلٍ بما تكلَّم فيه صاحب المقال، وظننتُ أنَّه إنَّما استطال عليهم باسمه لا بعلمه، وكنتُ أنوي أن أذكر لك هذا قبل أن يحدث معي، فلمَّا حصل ما حصل أردت أن أُبيِّن له أنْ ليس كلُّ النَّاس يجامل خشية التَّحامل، ويُصانع فرارًا من المُمَانع، فالأدبُ مع العلم أولى في نظري من الأدب مع الأشخاص، أتُرى الرَّجل يُسيء الأدب مع العلم بالاعتراض عليه بالجهل، وأتركُ أنا الأدب مع العلم فلا أنتصر له أدبًا مع المتخوِّض؟! اللَّهم لن يكون هذا منِّي ما حفظتَ عليَّ عقلي.
عذرًا، فلو أنَّ كلَّ من تكلَّم فيما لا يُحسن، أُدِّب بأدب العلم لاختفى كثيرٌ من الغثاء الطَّافي فوق الصَّفاء، والله الموفق».
وأمرٌ آخر، هو أنه طعن فيَّ طعنا شديدًا بكلام قبيح قبل أن أكتب ما كتبت، فكيف ينكر عليَّ طعني فيه لو طعنت؟! هل عِرضُه مُحرَّم وعِرضي مباح، أم يجوز له ما لا يجوز لغيره؟! أم هو المجتهد المأجور وغيره الطَّاعن المغرور؟!

وأمَّا التنبيه فهو أنَّه لم يُجِبْ عن جميع ما ذكرتُه، بل كان ينتقي أشياء يجيب عنها وأشياء يتجاوزها.
وسأذكر ما لم يُجِب عنه:
فما ذكرته له من التَّحريش الَّذي وقع منه عدَّة مرَّاتٍ لم يُجب عنه، وأيضًا ما ذكرته من أنَّ هذه الطَّريقة مخالفةٌ لما عليه أهل العلم، ومُجانبة لطرائقهم، بل اقتصر على إلزامي بأنِّي وقعت فيما أنكرته عليه، ولئن سلَّمتُ له أنِّي وقعت فيه، فهذا ليس بجواب، بل حيدة عن الجواب وفرارٌ منه.
وما ذكرته من إخراجه للرَّسائل الخاصَّة وتجويزه لذلك لم يُجِب عنه.
3ـ وما ذكرته من مسارعته لتكذيبي والتَّعريض بتكذيب الشَّيخ عبد الغني لم يجب عنه.
وجوابي عن سؤاله الثالث لم يجب عنه.
وما ذكرته من مخالفة الواقع لما وصف به الشيخ بوقليل في علمه وأدبه لم يجب عنه، بل اقتصر على تجديد رميه بالكذب، وهو دعوى عريَّة عن الإثبات، فالشَّيخ حسن كان قبض ما قبضه بأمانة، وهو مُصَدَّقٌ في ادِّعاء الإرجاع على أصحِّ أقوال العلماء، كما هو معروفٌ في محلِّه من كتب الفقه.
وما ذكرته من خطئه في إنكاره على الشَّيخ حسن إلغاءَ محاضرة لأنَّه نسي أوراقه التي كتبها فيها، وعدوله إلى الإجابة عن أسئلة الإخوة لم يُجب عنه.
وما ذكرته من مخالفة الواقع في الشَّيخ مصطفى قالية من كونه من شيوخ النت والفجأة لم يُجب عنه.
وجوابي عن سؤاله الخامس لم يُجِب عنه.

v وممَّا يحسُنُ ذكره هنا إقامةً للمعذرة أنِّي تجنَّبت أن آخذه في جوابي بأغلاطه في اللُّغة والنَّحو، لأنَّ أمرها سهل، ولا يكاد يسلم منها أحدٌ، لا سيَّما في هذا الزمان، وهذا بعضُ ما قصدته بقولي في آخر الجواب: إنِّي سأدفع بالأسهل فالأسهل، لكنَّه لم يقنع بالسِّتر، فجعل يتعرَّض لي في هذا الباب، ويُدِلُّ بعلمه فيه، فعابَ جملة وقعت في جوابي بالرَّكاكة، فقال: «فيه ركاكةٌ في الأسلوب كركاكة فهمك...»، وأنكر استعمالَ لفظة في كلامي وقال: «هي مولّدة كتولّد فكرك...»، فقد فتح على نفسه بابًا لم أحبَّ له أن يفتحه، فليَقُم لتبعاتِه عليه، فإنِّي سأعامله بالمِثل، فأنقُدُ ألفاظَه ومعناه، وأنا في هذا مقتدٍ بالشَّيخ ربيع ـ حفظه الله ـ الذي قال في «بيان فساد المعيار» (ص 11): «لقد كنَّا لا نحاسب أحدًا على مثل هذه الأخطاء ولا نأبَهُ بها، لكن لمَّا أعطاها صاحب «المعيار» أهميَّة كبيرة  وبنى عليها عناوين مهولة وأعطاها بُعْدًا علميًّا لم يُسبق إلى مثله، أردنا أن نُنكِّل به ونؤدِّبه بمثل ما صنع».

مع التنبيه على أنِّي لم أنتقده في جميع أغلاطه في هذا الباب، بل أغفلت عددًا منها، حتَّى لا أُثقِلَ التَّعليق بالأمور السَّهلة الَّتي لا ينبني عليها كبير شيء.
? وقد راعيت في هذه التَّعليقات:
الاختصار حسب الإمكان، فلذلك تجنَّبت حشوَ المقال بما يمكن الاستغناء عنه.
ولم أتكثَّر بالنُّقول، إلَّا ما دعت إليه الحاجة.
وأعرضت عمَّا يتعلَّق بشخصي من الطَّعن والنَّقيصة.
وصرفت العناية لبيان الخلل في تقرير المسائل العلميَّة الَّتي تَعَرَّضَ لها الشَّيخ، لا سيَّما وضعُ النَّقل في غير موضعه، وتنزيل كلام أهل العلم على غير موقعه.
 ولا يفوتني هنا الإشارة إلى أنَّ هذه المقالات تعتبر وثيقةً قويَّةً تشهَدُ على الأدوات الَّتي وُظِّفت في الحملة على الدُّعاة السَّلفيين من أجل إسقاطهم وتشويههم، وذلك مثل:
ترويج أمورٍ غير ثابتة ولا محقَّقة، وما أكثر ما رُوِّج عن هؤلاء الدُّعاة من الأخبار الَّتي لا خطام لها ولا زمام. انظر مثلًا التَّعليق رقم (81)، و(73).
الإصرار على إلصاق التُّهم بهم، ولو تبرَّؤوا منها، انظر التَّعليق رقم: (111).
حمل كلامهم على خلاف مرادهم. انظر التَّعليق: (113).
تفسير كلامهم المحتَمِل على الوجه الَّذي يريده المنتقِد. انظر التَّعليق رقم: (79).
وكلُّ هذه الأمور موجودةٌ في هذه المقالات الَّتي تُعتبر أنموذَجًا واضحًا على توظيف هذه الأدوات في هذه الفتنة الرَّقطاء الَّتي ألمَّت بنا.
فبالله أيُّها العقلاء والمنصفون! كيف يَسلَمُ شخصٌ يُروَّج عنه الكذب، ثمَّ إذا نفاه وأنكره لم يُقبَل منه ولم يُصَدَّق، وإذا قال قولًا محتمِلًا حُمِل على الوجه المكروه؟!
هذه مقدِّمة، ننفصلُ منها إلى الشُّروع في التعليق، واللهَ أستعينُ، وإيَّاه أسأل السَّداد والتَّوفيق.



الجمعة، 19 يناير 2018

نِدَاءٌ إِلَى كُلِّ سَلَفِيٍّ صَادِقٍ


بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
أما بعد:
فقد مرَّ على بداية الفتنة بين السلفيين في بلادنا الحبيبة قريب من شهرين، طغى فيها الخلاف، وانتشر فيها السب والتشهير، فشمت الأعداء، وفرح الحساد، وترك كثير من السلفيين الثغور التي كانوا عليها، فمر المولد من غير كبير تحذير، ومرَّت احتفالات رأس السنة وميلاد المسيح فذهب عدد من الجزائريين للاحتفال به حتى تزاحموا على مداخل تونس ولا نكير، ومرت طعوناتٌ رعناء خبيثة في السنة النبوية وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض القنوات الخاصة فعُدِم المنكر والمنذر والمحذر. فنعوذ بالله من الفتن التي تقطع الخير عن الناس، وتشغلهم بما لا فائدة فيه.
هاقد جاءت نصيحة الشيخ ربيع بن هادي ـ حفظه الله ـ، صريحة مدويَّة، وهو الإمام الخبير الذي قضى عمره في محاربة المبطلين وجَمْعِ كلمة السلفيين في أنحاء العالم، فنصح باجتماع الكلمة، وحذَّر من الفرقة والاختلاف، ونبَّه إلى أنَّ الأخطاء الموجودة لا تستوجب التَّحذير والإسقاط، وإنَّما تُعالج بالنَّصيحة بالحكمة، وحذَّر من العجلة، وتأيَّدت كلمته بكلمة الوالد المشفق عبيد الجابري ـ حفظه الله ـ، فاتَّفقت كلمتهما على الدعوة إلى التعقُّل والاجتماع ووأد الخلاف.
فجزاهما الله عن السلفيِّين خيرًا، وحفظهما الله وأطال عمرهما في طاعته.
والحمد لله الذي أبقى في الأمَّة علماء أمناء نصحاء يدعون إلى الخير.
فيا معاشر السلفيين! إن كنتم للنَّصيحة مستمعين، وعن الحقِّ والهدى باحثين، وعلى مصلحتكم ومصلحة أهل البلاد حريصين، فاجمعوا قلوبكم على الحقِّ، وتناسوا حظوظ النَّفس وأهواءها، وأغيظوا الشَّيطان وأعوانَه من شياطين الإنس المتربِّصين بكم وبدعوتكم.
والله لقد عمَّ البلاء حتَّى شمل الصِّغار والكبار، وعمَّ الرجال والنِّساء، وأصاب القريب والبعيد، فالله الله في هؤلاء المساكين الذين لا يفقهون من خلافاتكم شيئًا، ولا حظَّ لهم منها إلَّا الشك في منهجكم، بل ربَّما في دينكم من الأساس!
اللَّهم وفقنا ووفِّق مشايخنا للاجتماع على الحقِّ، وجمع الكلمة على الهدى والخير

الأحد، 31 ديسمبر 2017

جواب رسالة الشيخ جُمعة إليَّ ...

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

أمَّا بعدُ:

فقد كتبَ إليَّ الشَّيخ جمعة رِسالةً، وقد قال بعض السَّلف: «حقُّ الكتاب ردُّ الجواب»، فهذا جواب الرِّسالة، أُرسله مع البريد الَّذي أوصلها إليَّ، وهو وسائل التَّواصل.

وقد كان ينبغي أن لا أجيبَه، رعايةً لمكانِه، وحِفظًا لسابقته، لكنَّه طلب منِّي الجواب فقال: «فقط عندي بعض الأسئلة أريد أن أطرحها عليك، وأرجو منك الجواب»، وهذا في النُّسخة الثَّالثة من رسالته، فإنَّه كتب الرسالة ونشرها أوَّلًا، ثمَّ نشرها بزيادةٍ وميَّزها بـ«نسخة منقحة مزيدة»، ثمَّ ذكر أنه عرضها على الشيخ ربيع ـ حفظه الله ـ فصحَّح له بعض الأمور، ونشرها هذه النَّشرة الثَّالثة!(1) وهذا يدلُّ على اهتمامٍ بالغٍ منه بهذه الرِّسالة وقضيَّتها! ولم أفهم ـ والله ـ إلى الآن سبب هذا الاهتمام الزَّائد!

فالمهمُّ أنَّه لم يُبْقِ مندوحةً عن الجواب، فهاك جوابي فضيلة الشَّيخ!

 الرِّسالة في جملتها عبارةٌ عن أسئلة وجَّهها إليَّ الشَّيخ بخصوص كلماتٍ ومواقف لأخي محمَّد مرابط، سببها أنِّي أثنيتُ عليه بما  أعرفه فيه من خيرٍ، بعد أن طعن فيه الشَّيخ جمعة وسمَّاه هابطًا.

وقبل أن أجيبه عن أسئلته تفصيلًا أجيب بجوابٍ إجمالي، وقبل ذلك كلِّه أُقدِّم بتمهيدٍ أشرحُ فيه للقارئ الكريم خلفيَّات كلامِ الشَّيخ جمعة وهجومه عليَّ وعلى إخواني حتَّى تكتمل الصُّورة، وتتَّضح الرُّؤية عند الجميع.

تمهيد:

في يوم (16 أكتوبر 2017م) جاء الشَّيخ عبد المجيد جمعة إلى مقر «مركز التَّصفية» لعقد لقاءٍ معي ومع أخي محمَّد، وكان مرافقُ الشَّيخِ أخبرنا أنَّ الشيخ يريد اللِّقاء معنا، فتجهَّزنا لذلك واستقبلناه، فلمَّا تكلَّم الشيخ فهمنا منه أنَّه يظنُّ أنَّنا نحنُ من طلب اللِّقاء معه، فاستفتحت أنا الكلام، وطلبت منه توضيحًا بخصوص ما يبلغنا من تحذيره وكلامه في الشَّيخَيْن الفاضلين: عز الدين رمضاني ورضا بوشامة، فتكلَّم الشيخ بما عنده، وأطال الكلام، وممَّا جرى في أثناء حديثه أنَّه طَعَنَ لَنَا في خمسةٍ من المشايخ الكبار، وسمَّاهم «عصابة»، وهم المشايخ الفضلاء: (عز الدين رمضاني، عبد الخالق ماضي، رضا بوشامة، توفيق عمروني، عثمان عيسي)، وقد انفصل المجلس على هذا.

فأما أنا فلم أُظهِر له اعتراضًا، بل أظهرت الموافقة حتَّى أتجنَّبَ المواجهة معه، وأمَّا أخي محمَّد فظنَّ أنَّ له عنده من المنزلة والإدلال ما يجعله يقبلُ منه الاعتراض، فأرسل إليه صوتيَّتين في (الواتس آب) طالبَهُ فيهما بكلِّ وضوح وصراحة ـ مع لزوم الأدب ـ بالبيان، وأن يكتب لنا شيئا واضحًا في أخطاء هؤلاء الذين يريد التحذير منهم، حتَّى يقبل الناس تحذيره منهم وكلامه فيهم، والتزم له إن هو فعل ذلك أن ينشره بنفسه وينصره فيه، (والصوتيَّتان محفوظتان وسننشرهما إن احتجنا إلى ذلك)، فكان هذا هو سبب حَنَقِ الشَّيخ جمعة على محمَّد، وادَّعى أنَّه أساء معه الأدب، فلمَّا كتب محمَّد الحلقة الأولى من مقاله «بلاسم الجراح»، قال فيه الشَّيخ جمعة كلامًا شديدًا وسمَّاه هابطًا، فلَمَّا وقفتُ على كلامه رأيتُ أنَّه لا يسعني السكوت، فكتبتُ تغريدةً في «تويتر» أثنيتُ فيها على أخي محمَّد بما أعلمه عنه، فكان أن جاءت رسالة الشَّيخ جمعة الَّتي أكتب الآن الجواب عنها.

 أمَّا الجواب الإجمالي عن أسئلة الشيخ فهو أنه لا يلزم من دفاعي عن محمد أنني أنصر وأقرُّ كلَّ ما يقول هو وينشره، هذا ما عليه النَّاسُ جميعًا، فهاأنت أيُّها الشَّيخ تُثْنِي وتُزَكِّي من تظنُّ فيهم خيرًا في مناسبات كثيرة، فهل يقول عاقل إنَّك بذلك تقرُّ وتنصر ما يقولونه، وما قُيِّد عليهم من ملاحظات وأخطاء!!

وسيأتي أنك أردت إلزامي بذكر أخطائه في مقام الثَّناء وإلا كان ذلك على منهج الموازنة الفاسد، وأنَّ الشَّيخ ربيعًا ردَّ ذلك عليك وأنكره، فثبت بحمد الله تعالى أنَّ دفاعي عن أخي لا يجعلني مقرًّا لأخطائه ناصرًا لها، وهذا كافٍ في الجواب لمن عَقَل.

ومحمد كغيره يخطئ ويصيب، إن أصاب نقول له: أصبت، ونثني على إحسانه، وإن أخطأ نقول له: أخطات، وننصحه، وأنا أسير معه ومع غيره على القاعدة السلفية التي قرَّرها علماؤنا أخذًا من نصوص الشَّريعة وآثار السَّلف، وهي أنَّ السَّلفيَّ الذي لم يخالف أصلًا من أصول السنَّة فهو ـ وإن أخطأ ـ أخونا، ننصحه ونُقَوِّمه قدر ما نستطيع، السرُّ بالسرِّ والعلن بالعلن، حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة، ولا نبدِّعُه ونتبرَّأ منه بسبب خطئه الذي لم يخرج به عن دائرة السنة.

 وأزيد ذلك بيانًا بالأجوبة المفصَّلة، فأقول:

استفتحت ـ سدَّدك الله ـ رسالتك إليَّ بأربع عَثَرَاتٍ:

أوَّلها: أنك قلت في ثنائي على أخي محمد: «بل حسبك أنّك كتبتها بقلم غير سلفي؛ لأنَّ الحكم على الرَّجل بحاضره، وليس بماضيه، والأمور بالخواتيم».

والجوابُ أنَّ الواقفَ على هذا الكلام يظن أني قلت عن أبي معاذ: كان وكان، فحكمتُ عليه بماضيه ولم أتعرَّض لحاضره، مع أن نصَّ كلامي: «إنَّ أخي أبا معاذ محمَّد مرابط صاحب عقل راجح، ومنهج قويم، عرفته منذ عشرين سنة مرابطًا على السنَّة، مدافعًا عن أهلها، ولا يزال كذلك ثبَّته الله وأيده»، فقد نصَصْتُ على أنَّه لا يزال على ما عرفتُه عليه من السنَّة والدِّفاع عنها، فكيف تحكمُ عَلَيَّ بعدَ هذا بأنَّني كتبتُ التَّغريدة بقلمٍ غير سَلَفِيٍّ، لأنِّي حكمتُ على الرَّجل بماضيه!!

والثانية: أنَّك سألتني هل أُقرُّ وأوافق أخي مرابط على قوله كيت وكيت ممَّا نَقَلْتَهُ، مع أنَّك نقلت بعد السؤال مباشرةً المحادثةً الَّتي كانت بيني وبينك، وفيها أنِّي حكمتُ على كلام أخي مرابط بأنَّه بالغ وهوَّل وعَمَّم، وأنِّي راجعتُه فيه ووعَدَ بتدارك الأمر في المجموعة الَّتي نشر فيها كلامه، وقد فعل جزاه الله خيرًا، فما محلُّ السُّؤال بعدَ هذا كلِّه؟!

والثَّالثة: أنَّ المحادثة كانت في الخاصِّ بيني وبينك، فلا أدري كيف استجزت نقلها وإخراجها، وأنت الفقيه! والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «المَجَالِسُ بالأمَانَة»! [أخرجه أبو داود (4869)، وسنده ضعيف، لكن له شواهد كما في تراه في «السِّلسلة الضَّعيفة» (تحت رقم: 1909)].

ثمَّ ألا أراك في الرِّسالة نفسها تُنكِر على الشَّيخ حسن بوقليل ـ حفظه الله ـ الخيانَةَ، وتجرحه بها، وتَسِمُهُ لذلك بقلَّة الأدب! فكان ينبغي أن تكون في أعلى مقامات تحقيق الأمانة.

قد تقول: إن الرَّسائل الخاصَّة ليست من الأمانات، أو تقول متفقِّهًا: يجوز إخراجها لمصلحة الدَّعوة، فأنت وما ترى، لكنَّنا لم نعهد من علمائنا وأفاضِلِنَا هذه الطَّريقة في الردِّ، وحَسْبِي بهذا عثرةً.

والرَّابعة: أنَّ نقلك لنقدي أبا معاذٍ تحريشٌ صريحٌ بيني وبينَه، لأننا لو فرضنا أنه لم يعلم من قبل بنقدي لكلامه فلا شك أنه سيجد في نفسه من ذلك، لكنَّ ذلك لم يكن، لأنِّي كنتُ صارحته وناقشته في كلامه وطال نقاشنا فيه، فلم تأته شيخنا! بما لا يعرفه من كلامي، بل كلامي معه مباشرةً كان أشدَّ ممَّا نقلتَهُ عنِّي.

فإن قلت: لم أقصد التَّحريش.

فأقول: بيِّن لي فائدةً واحدةً من ذكر كلامي غير التَّحريش!! فأنت قطعًا لا تريد معرفة قولي ورأيي في كلامه، لأنِّي كنت أخبرتك به كما نقلت أنت.

اللَّهم إلَّا إن كنت تريد أن تُلْزَمَنِي بعدم الثَّناء عليه لكوني خالفتُه في تلك الكلمة، فالجواب أنَّه لا تلازم بين الأمرين، فالاختلاف بين النَّاس قائم، ولن يزال، وليست هذه المسألة ممَّا يوجب المفارقة والمنابذة، فأنا أعرف سلفيَّته ومحبَّته لمشايخ السنَّة، وغيرته عليهم وعلى دعوتهم، فالخطأ في العبارة قريبٌ، لا يستوجب كلَّ هذا الَّذي وقع منك تجاهه.

ثمَّ إن طريقة التَّحريش هذه قد اتَّبَعْتَها مع غيري في هذه الواقعة، فهاأنت قد حرصت أيضًا على التَّحريش بين أبي معاذ وبين مشايخه الَّذين تزعم أنَّهم كانوا يطعنون فيه، وذلك في قولك معترضًا عن دفاع الشَّيخ حسن بوقليل عن أخيه: «بل التزم الصَّمت، لَمَّا كان صاحبه يحظى بالطَّعن والهمز من طرف من ارتمى في أحضانهم (ولله في خلقه شؤون)، ولم يجرأ أن يتكلَّم».

كما أنَّك أيضًا لمَّا سأل أخونا البُليديُّ الشَّيخَ عبد الغني عَنَّا ونشر جوابه، حاولت التَّحريش بينَه وبين أبي معاذ، وذكرت أن البُليديَّ كان يأتيك يتشكَّى من أبي معاذ! كما هو في أحد أجوبتك المُصوَّرة المنشورة.

فما الغرض من هذا كلِّه! وهل كانت ردود العلماء على هذا النَّحو؟ وبهذه الطُّرق والأساليب الخسيسة؟ كلا والله، فأهلُ السنَّة أهل شَرَفٍ وصدقٍ وحقٍّ، وهم أغنياء وبُرءَاءُ من هذه الوسائل الحزبيَّة البغيضة الَّتي يمقتها الله ويمقتها عباده المؤمنون.

وليس العجب منك فقط في وقوع هذه التَّحريشات، فقد تكون عن غفلةٍ أو تأويلٍ ـ وأعيذكم بالله من الثَّالثة ـ، بل الأعجب أن يتناقلها النَّاس ويثنون على كتابتك ولا ينكر ذلك منهم أحدٌ، مع ظهوره ووضوحه، فاللَّهم احفظ علينا عقولنا، وثَبِّت قلوبنا.

وقد رأيتُ من المناسب أن أنقل موقفًا للشَّيخ الإمام ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ يناسب هذا المقام، ليتعلَّم منه إخواننا كيف ينبغي أن يكون النَّاقد والرَّادُّ، ويعرفوا صفات أهل السنَّة الَّتي رفعهم الله بها، فإنَّ الشَّيخ ربيعًا قد قارع رؤوس أهل البدع عقودًا من الزَّمن، ونَصَرَه الله عليهم في ذلك كلِّه بصدقه وأخلاقه وديانَتِه، ووالله لو كان عنده شيءٌ من هذه الأساليب والسَّقَطَات لأسقطه الله من أوَّل أمرِه، ولكنْ رَفَعَهُ الله مِنْ حيثُ وضع آخرين.

قال المُرابط ـ ثبَّته الله وربط على قلبه ـ في كتابه «المجموع الحافل» الَّذي جَمَعَ فيه مواقِف من حياة الشَّيخ ربيع ـ حفظه الله ـ ممَّا شاهَدَهُ هو وغيرُه (ولم يُنشَر بعد):

«صدقٌ وتجرُّد: كتب أحد المشايخ ردًّا بيَّن فيه تفاصيل ما جرى في جلسة جمعت الشيخ ربيعًا ببعض المنحرفين المخالفين، فوقع فيها ما وقع من سوء أدب ومخالفة للحقِّ، ثم تجرَّأ أحد من حضر المجلس وهو رأسهم وقائدهم على كتابة وقائع تلكم الجلسة، فكذب وحرَّف الحقيقة كما هي عادتهم.

فانبرى هذا الشيخ لكتابة ردٍّ على بيانه، كونه كان حاضرًا في المجلس، وعندما أنهى ردَّه عرضه على الشيخ لينظر فيه، فطالبه الشيخ بعد مراجعة بيانه بحذف فقرة من فقرات البيان وشدَّد عليه في ذلك.

ومفاد الفقرة أنَّ أحد الحضور ـ وهو رأس من رؤوس الشرِّ ـ أساء الأدب في مجلس الشيخ ورفع صوته في بيته، وقام من مجلسه منتفضًا كالثور، وهو ما دفع بهذا الشيخ إلى القيام له لإسكاته، فقام أحد الحضور وهو زميل لهذا الثائر وصديقه الحميم، وكان أعقل منه، فانزوى به بعيدًا وأخبره بأنَّ هذه من عوائد الرَّجل، فلا تنزعج واتركه حتَّى تسلم من شره.

فلمَّا وقف الشيخ ربيع على هذه الجزئية في بيان الناقد، أمره أن يحذفها من ردِّه، وقال له ـ كما أخبرني هو ـ: «هل تريد أن تُحَرِّش بينهما»؟! وقصده أن الطائش إذا وقف على بيان الجلسة سيتفطَّن حتما إلى كلام صديقه فيه ـ عندما انفرد بالرجل ـ فيقع في نفسه أن صديقه طعن في ظهره! لهذا رأى الشيخ أن هذا من النَّميمة والتحريش!

فانظر ـ رعاك الله ـ كيف يُنْصِفُ الشيخ خصومه من أهل الباطل! ولو أنَّ أحدنا كان في مكانه لفرح الفرح الشَّديد بهذه الغنيمة، لأنَّها تُحقِّق له شيئا من الغلبة والانتصار على خصومه.

والله لو أجزت لنفسي ذكر الحادثة بعينها وتعيين الأشخاص بأسمائهم، لما صدَّق القارئ كيف تجرَّد الشيخ وأنصف هذا المبتدع الضالَّ الذي اشتهر بعدائه وخصومته الفاجرة مع الشيخ، لكن ما فعلتُ هذا إلَّا احترامًا للشَّيخ وتحقيقًا لمقصده» اهـ.

وقد أتبعتَ هذا السُّؤال الأوَّل بكلامٍ أقف منه على أمور:

الأمر الأوَّل: قلت: «وأيضًا ذكرت محاسن الرَّجل، وتغاضيت وتكتَّمت، وأهملت ما أورده في تغريداته من انحرافات علمية،  ومنهجية»

أقول:

أوَّلًا: أنا ذكرت عن الرجل ما أعلم، ولا أعلم عنه ـ بحمد الله ـ انحرافًا منهجيًّا ولا علميًّا.

ثانيًا: هل كلُّ من ذكر رجلًا بخيرٍ وهو يعلم عنه بعض الأخطاء غير المنهجيَّة يلزمُهُ أن يذكرها؟ إذًا يلزم من هذا أن لا يُثنِيَ أحدٌ على أحدٍ إلَّا انتقده، لأنَّه لا يسلم أحدٌ من الخطأ، نعم، من يُخشَى من الثَّناء عليه مطلقًا اغترارُ النَّاس به ومتابعتهم له على ما عنده من المخالفة فهذا يحسُن ـ وربَّما يجب في مواطن ـ التَّنبيهُ على أخطائه، ولا أعلم هذا عن أخي محمَّد، ومن رحمة الله تعالى أن أبقى فينا علماء يُبيِّنون الحقَّ ولا يكتمونه، فلهذا لَمَّا أردت التوسُّع في النِّكاية وألصقت بي منهج الموازنة أنكر ذلك شيخنا الإمام ربيع ـ حفظه الله ـ وقال: «هذه ليست موازنة، هذا ظلم»، كما أثبتَّ ذلك في حاشية رسالتك، فجزى الله شيخنا الإمام خير الجزاء.

الأمر الثَّاني: قوله: «وحسبك أيضا كذبًا أنّك تدّعي معرفتك به مذ عشرين سنة؛ فليت شعري، متى مضى من عمركما؟! ومتى التقيتما؟!».

أقول: قد عددت السِّنين التي عرفت فيها الرجل قبل أن أكتب ما أكتب، فمعرفتي به كانت في حدود سنة (1418) أو بعدها بقليل، فهي عشرون سنةً مستوفاة الشهور والأيَّام، هذا فضلًا عن أنَّ العرب تُسقِط الكسر إلى جهة القرب عند العدِّ، فلو كنت أعرفُه منذ سبعة عشر عامًا أو ثمانية عشر عامًا لجاز لي لغةً وشرعًا وعرفًا أن أقول منذ نحو عشرين سنة! فكيف وهي عشرون تامَّة؟!

ثمَّ بأيِّ دينٍ وعقلٍ تحكم عليَّ بالكذب في أمرٍ ممكن قريب، وأنت لم تُجرِّب عليَّ كذبًا قبلها؟! فسامحك الله.

على أني لا أستصعب تكذيبك لي بعد أن كذَّبت الشيخ عبد الغني عوسات ـ حفظه الله ـ في قوله: إنَّه يعرف من زكَّاهم من إخوانه طلَّاب العلم منذ عشرين سنة!! مع أن بعضهم يعرفه الشَّيخ منذ أكثر من ذلك.

الفرق أنك صرَّحت بتكذيبي وعرَّضت بتكذيبِ الشيخ فقلتَ: «عجبًا! أمن العدل والصدق والحق معرفة هؤلاء منذ عشرين سنة؟ يا ليت شعري متى التقى بهم، وهل هم إخوة في النَّسب اجتمع بهم دفعة واحدة في بيت واحدٍ وعرفهم؟؟» ونحو هذا من الكلام الذي لا يقدح فيما أثبته الشيخ! بل يضرُّك ويؤذيك، والله المستعان.

الأمر الثَّالث: قولك: «كذا قال: «كلام خاص في مجموعة مغلقة» هل صارت الدعوة السلفيّة صوفيّة إخوانيّة؛ لها كلام في العام وكلام في الخاص، أم أنّ ما نقوله للخواص لا يقال للعامة حتى لا نفتضح؟!».

فهذا الكلام من المُدْهِشات، لأنَّ من العلم المستفيض الذي لا يخفى على مَنْ هو دونك بمراحل أنَّ من العلم ما لا يجوز أن يُحَدَّث به عامَّة الناس، وقد بوَّب البخاري رحمه الله على ذلك: «باب من خصَّ بالعلم قومًا دون آخرين كراهية أن لا يفهموا»! فبعضُ الكلام وإن كان الرجلُ يعتقد أنه حق فإنه إن خشي مفسدة من إذاعته في عامَّة الناس لم يكن له أن يفعل، وليس هذا مما عُرِف عن أهل البدع من التكتُّم عن مذاهبهم وضلالاتهم، لأنَّ هذا في أمرهم كلِّه ودعوتهم من أصلها، وليس في بعض العلم الَّذي قد لا يفهمه بعضُ الناس.

على أنَّ كل من يعرفك يشهد أنك من أكثر الناس فعلًا لهذا الذي تنكره، فكم قُلْتَ ثمَّ أنكرت، وكم تكلَّمت في السرِّ بما تنكرُه في العلن، وكَمْ وكَمْ، والله الموعد.

 أمَّا سؤالك الثَّاني: «هل تقرُّ وتنصر قول صاحبك في مقاله الأخير: «بلاسم الجراح»، وفيه بلايا، وكأنّه طبيب جرّاح، وليس هذا موضع بيانها، لكن حسبي أن أنقل عبارة واحدة، تنبئ عن شخصية الرجل، وتحوّله، وهي قوله: «سأحاول في هذه العجالة أن أمدّ للحائر في ظلمات الزيغ، بعض حبائل النجاة المنسوجة من نصوص الشرع وآثار السلف، تخلص الآخذ بها ـ بإذن الله ـ من غياهب الفتن والشكوك والأوهام، وترفعه إلى مراتب العقل والفهم والثبات».

فأقول: لم يظهر لي وجهُ الخطأ والمخالفة في هذا الكلام!! فالرَّجل يزعم أنه يدلُّ الحائر، ولم ينتصب دليلًا للأمَّة كلِّها، ألا تراه يقول: «أمدُّ للحائر في ظلمات الزَّيغ»؟ وليس كلامُه بأبلغَ من تسمية ابن القيم كتابَه في الرد على النَّصارى بـ«هداية الحيارى»!

ثمَّ هو أخبر أنه ينسج من حِبال الشَّرع وآثار السلف، لا من فهمه وفكره، أوليست الحبال المنسوجة من الكتاب والسنة أعظمَ هداية؟!

نعم، قد ترى أنه تصدَّى لمقام أكبر منه، حيث انبرى لاستخراج هدايات الكتاب والسنَّة وآثار السلف، فلك أن تنصحه في لينٍ أو تزجره بما يناسب المقام، لكن من غير تهويلٍ، فإنَّ التهويل بضاعةٌ لا رواج لها في سوق النقد العادل، وإنَّما يحملها مِن النَّاس الجاهلُ والمتحامل.

وأمَّا يمينك وقَسَمُك على أنهَّا لو قيلت لشيخ الإسلام ابن تيمية لتبرَّأ منها، فرجمٌ بالغيب، وتهويل أيضًا، وهو كَقَسَمِك فيما يأتي في جواب سؤالك الثَّالث.

على أنَّ ابن تيمية قد قيل فيه ما هو أكثر من هذا ولم يتبرأ منه!! فقد أرسل عماد الدِّين الواسطي المعروف بابن شيخ الحزَّامين (المتوفَّى سنة: 711) رسالةً إلى تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة ـ وهو حيٌّ ـ قال فيها: «فاشكروا الله الَّذي أقام لكم في رأس السَّبع مائة من الهجرة من يبُيِّن لكم أعلام دينكم، وهداكم الله به وإيَّانا إلى نهج شريعته، وبيَّن لكم بهذا النُّور المحمَّدِيِّ ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزَّائغ من المستقيم، والصَّحيح من السقيم» [«التَّذكرة والاعتبار» ضمن «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (121-122)]، فأينَ هذا ممَّا قاله محمَّد؟!

وقرَّظ ابن الزملكاني كتاب الشَّيخِ «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» فكتب بخطِّه عليه ثناءً طويلًا عظيمًا ختَمَهُ بقوله:

ماذا يقول الواصِفُونَ لَهُ      وصفاته جَلَّت عن الحَصْرِ    

هو حجَّةٌ لله قاهرةٌ            هو بيننا أعجوبةُ الدَّهرِ    

هو آيةٌ في الخلقِ ظَاهرةٌ     أنوارها أرْبَت عَلَى الفَجْرِ    


قال فيه هذا الكلام وكتبه بخطِّه في كتابِه ولشيخ الإسلام نحوُ الثَّلاثين سنة كما في «الجامع» (253).

واشتُهر أنَّ أبا حيَّان شيخ النحاة لَمَّا لقيه قال على البديهة يمدحه أبياتًا، منها قوله:

قام ابن تيميةَ في نصرِ شِرْعَتِنَ      اقيامَ سَيِّدِ تيمٍ إذْ عَصَت مُضَرُ    

فأظهر الحقَّ إِذْ آثارُه دَرَسَتْ         وأخمَدَ الشرَّ إذ طارَتْ له الشَّرَرُ    


يعني بقيام سيِّد تَيْمٍ، قيام أبي بكر رضي الله عنه في حروب الردَّة!

وليس الغرض أن ابن تيميَّة يرضى بالمدح، ولا أردت أن أستقصي ما قيل فيه في حياته أو بين يديه، بل أن أُثبت أنَّه قد قيل فيه ما لا نسبةَ بينَهُ وبين كلام محمَّد ولم يتبرَّأ منه، فاحفَظْ يمينَك فضيلة الشَّيخ!

 وتقول في السؤال الثالث: «أقول لحمودة ومن كان على شاكلته: هل تنصر صاحبك مرابط، وتقر هذه التغريدة الأخيرة، وهي قوله: "لو كان سفهاء اليوم زمن الألباني وكانت وسائل التواصل بحوزتهم لرأيت منشوراتهم: كلام الألباني في ابن عثيمين! وتحذير ابن باز من الألباني! وطعن الألباني في التويجري! وكلام الشنقيطي في الألباني، وصدق القائل: نكون في زمن نبكي منه فإذا مضى بكينا عليه، فاللهم رحماك فقد اشتد الأمر وعظم البلاء".

ووالله لو حذف اسمه لقيل في أول وهلة جزما، ودون تردد: هذه التغريدة للمسعودي – المسعوري- أو لأبي المخازي ومن كان على شاكلتهما، بله للحلبي أو الرمضاني».

لا أزيد على تأكيد تعجُّبي منك، فقد استغربتُ ـ ولا أزال أستغرب ـ ماذا أنكرتَ من هذه الكلمة التي تَوْتَرَ بها صاحبي، فهو ينكر على من يحشر نفسه بين العلماء الكبار، ويذكر نماذج لِخِلَافاتٍ وقعت بين بعض أهل العلم لم توجب تهاجرًا ولا تحذيرًا، وقد سألتُ بعض من أنكر هذه الكلمة: ما موقفنا من ردِّ فلان على فلان من العلماء؟ قال: نسكت ولا ندخل أنفسنا بينهما، قلت: هذا ما قاله أبو معاذ، فسكت.

وأزيدك أنه قد حدَّثني بعض مشايخنا الفضلاء أنَّه قرأ هذه التَّغريدة على شيخنا عبيد الجابري ـ حفظه الله ـ فاستحسن الكلام، وقال: «كلام طيب».

وقد حلفتَ يمينًا أخرى أنَّه لو حُذِف الاسمُ عن قائل هذا الكلام لقيل جزمًا دون تردد هو فلان أو فلان ممَّن سميت من المنحرفين، وقد أجابك أحد هؤلاء المُسَمَّيْن بعد أن وقف على يمينك فقال: «قد لزمتك الكفارة إن كنت فقيهًا».

على أنَّ هذا القائل قد أخطأ أيضًا، فالشيخ جمعة حلف على ما في ظَنِّه، ولا كفَّارة في ذلك على الصَّحيح إذا تبيَّن أنَّه أخطا في ظنِّه، وهو أحدُ معنيين يشملهما قول الله تعالى: «لا يؤاخذكم الله باللَّغو في أيمانكم»، ولكن غرضي من كلام ذاك المجيب أنَّه يُنكِر أن يقول هذا الَّذي استنكره الشيخ من كلام المرابط.

 وأما سؤالك الرَّابع وهو قولك: «هل تنصر صاحبك وتقر تغريدته في بيانٍ تضمّن أكثر من عشرين طعنة في السلفيّين بصريح اللّفظ والدلالة، في فقرتين فقط، وهم كثر –على حد لغة البيان-، وأصرّ على مباركته وتأييده...».

البيان المقصود هو بيان الشَّيخ عز الدين رمضاني ـ حفظه الله ـ المُسَمَّى بـ«كلمة إلى إخواني السلفيِّين في الجزائر»، وهو بيانٌ صريحٌ في الردِّ على الحلبي والرمضاني، قويُّ العبارة، واضح الغرض، سامي المقصد.

وليس محمَّدٌ بواحدٍ في تأييده، فإنَّ عُظْمَ السَّلفيِّين وجمهورَهم في هذا البلد قد فرحوا بهذا البيان واستبشروا به، وكان هذا البيان فتحًا عظيمًا عليهم، وأنا كنت ممَّن أيَّده وكتبت في ذلك توتَرَةً قلتُ فيها: لقد استحق الشَّيخ ـ صاحب البيان ـ ببيانه هذا الشكر والثَّناء واستحقَّ علينا الدُّعاء.

بل إنَّ البيان قد قُرئ على الشَّيخ عبيد الجابري ـ سلَّمه الله وحفظه وبارك فيه وفي أهله ـ ولم يستنكر منه كلمة واحدة!

وأوَّلُ من سمعتُه يطعن في البيان هو أنت، حيث زعمت أنَّ فيه طعنًا في السَّلفيِّين!! ولا أراه حملك على هذا إلَّا حَنَقٌ على الشَّيخ عز الدين لا ندري ما وراءه، ولعلَّك تُبيِّنه لنا وللسلفيِّين عامَّة بكتابات موثَّقة، أو تسجيل بصوتك، نسمعه منك لا من المجاهيل الذين يتكلَّمون على لسانك، حتَّى لا نظنَّ بك أنَّك لا تريدُ أن يكون إخوانُك مبرَّئين ممَّا اتُّهموا به، فلهذا تُشوِّشُ على هذا البيان الذي ينادي ببراءَتِهم من الحلبي والرمضاني.

مع أنَّ البيان ظاهرٌ في الثَّناء على السلفيِّين والدفاع عنهم والطعن في مخالفيهم، وإنَّما نَصَحَ بعض الشَّباب المتهوِّر بتلك النصائح الغالية التي لو أخذوا بها لقلَّت الفتن أو انعدمت بين السلفيِّين، وهي وصايا العلماء الكبار للشَّباب، لم يَعْدُهَا صاحب البيان.

ثمَّ هب أنَّ أخي محمَّدًا لم ينتبه كما انتبهت أنت إلى خفايا هذا البيان، فأخذ بالظَّاهر ووَكَلَ السَّرائر إلى الله، فما الضَّيْرُ في ذلك؟!

فإن قلت: قد بيَّنتُ له هذه الطعون وعددتها له، فالجواب أنَّه لا يلزم من كونك بيَّنتَ له رأيك فيه أن يوافقك عليه، لا سيَّما وقد خالفك جمهورُ السلفيِّين في هذا البلد.

فــصــل

استطرد المُرسِلُ في السؤال الرَّابع إلى الكلام على الشَّيخ حسن بوقليل، وقال فيما قال: «هو من شيوخ النت والفجأة، وهو أجهل من حمار أهله».

أقول: كلُّ من وقف على هذا الكلام ممَّن يعرف الشيخ حسنًا استنكره وتعجَّب منه، فالشيخ حسن ليس من شيوخ النت، بل هو من شيوخ الواقع، شيوخِ حِلَقِ العلم ودروس المساجد، وقد شارك في درواتٍ كثيرةٍ، وفي بعضها مع الشَّيخ جمعة، وله نشاط في التعليم منذ نحو عشرين سنة، وقد ألَّف وحقَّق، وحَصَل أخيرًا على شهادة الماجستير من جامعة الزَّيتونة، وهو مسجَّلٌ في قسم الدُّكتوراه في الجامعة نفسها.

ولقد آذى الشيخ جمعة نفسه بهذا الكلام، كما آذاها بقوله إنه أجهل من حمار أهله.

والباقعة الصلعاء في الشاهد الذي أتيت به لتستدلَّ على أنَّ الشيخ حسنًا قليلُ العلم، وهو كونه ذهب ليلقي محاضرة فلمَّا لم يجد الأوراق ألغى المحاضرة، فهذا ليس دليلًا على قلَّة العلم، بل دليل على التثبُّت، وأنَّ الرَّجل لا يتكلَّم إلا بما يعلم، وكم من السلف حرص على أن لا يُحَدِّث إلا من كتاب، أفيكون نقصًا في العلم، وكَمْ من كاملٍ في العلم وآلاته لا يتكلَّم إلَّا بما يُحَضِّرُهُ من دروس ومحاضرات.

إنَّ السكوت عن مثل هذا يُصَوِّر في أذهان الناس أن مثل هذا الفعل مذمَّة، والحقيقة أنه ليس كذلك، نعم، الأكمل بلا شكٍّ أن يكون علم الإنسان في صدره، لكنه إن حَضَّرَ ما سَيُلْقِيه وأعدَّه سَلَفًا فلا عَيْبَ عليه فيه.

وأما كونه قَلَب المحاضرة إلى سؤالٍ وجوابٍ فهو من حُسن تَصُرُّفِه، كونه لا يُضَيِّع على الطَّلبة اجتماعهم، ويفيدهم بما عنده من عِلْمِ مَا يسألون عنه.

وليس هذا استخفافًا منه بشأن الفتيا، لأنَّه يجيب عما يعلم، ويسكت عمَّا لا يعلم، بدليل أنَّه لَمَّا لم يجد أوراق المحاضرة لم يُلْقِها، فكذلك إذا سئل عمَّا لا يعلم يقول: لا أعلم، ولقد حدَّث من يحضر مجالسه أنهَّ كثير الجواب بـ«لا أدري».

وأمَّا وصفك إيَّاه بقلَّة الأدب فهذا أيضًا من العجب! فإنَّ الشَّيخ حسنًا معروف بعنايته بهذا الباب دراسةً وتدريسًا وامتثالًا.

وقد كنتُ في اللَّيلة الَّتي وقفتُ فيها على هذه الكلمة «قليل العلم وقليل الأدب» كتبت عليها تعليقًا قلتُ فيه:

«في بداية طلبي للعلم وُفِّقتُ إلى مسجد سلفيٍّ عامر بطلَّاب العلم المجتهدين، وكان رأسَهم ومقدَّمهم طالبٌ رأيته أكثر شيء اشتغالًا بأمرين:

الأوَّل: دراسة ومدارسة «كتاب التوحيد» للشيخ محمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله، ولشروحه المكتوبة والمسموعة.

الثَّاني: آداب طالب العلم، فهو لَهِجٌ بها كثير الحديث عنها في مجالسه، وكان له احتفال كبير بـ«الحلية» خاصَّة.

كبِر هذا الطالب وهو على هذا السَّنَنِ، فشَغَلَ مَنْ حوله وعَمَر دروسه بهذه الأمور، ومسجدُه الآن عامر بنشر العلم والتَّوحيد، والدَّعوة إلى التحلِّي بمكارم الأخلاق وجميل الآداب.

هذا هو أخي الشَّيخ حسن بوقليل حفظه الله وصان مهجته ورعى أنفاسه.

فهو حسن الخلق، قليل الشَّغَب، كثير الأدب.

والأمر لله»اهـ.

والشَّاهد الَّذي ذكرتَه على قلَّة أدَبِه لا يساعدك، فإنَّ قصَّة الأمانة قد أوضحها الشَّيخ حسن، وقد كتبتَ النُّسخة الثانية والثالثة من رسالتك إليَّ بعد أن كتب هو توضيحًا عن هذه المسألة، ولم تتعرض لجوابه وتوضيحه.

وما أحسن وأبلغ جواب الشيَّخ حسن عن وصفك له بقلَّة العلم والأدب إِذْ قال في التَّوضيح المذكور: «إنَّني أسعى لإصلاح قليل الأدب الَّذي رزقني الله، وأمَّا العلم فأسأل الله أن يُعَلِّمَني ما جهلت»!

فلو لم يكن للشَّيخ حسن إلَّا هذا الجواب لكان دليلًا ـ وأيَّ دليل ـ على حسن أدبه وفَّقه الله.

ولعلَّ هذا الجواب هو الذي زادك حنقًا عليه فقلت في النُّسخة الثَّانية: «وإن شئت قلت أبو قلَّة العلم وأبو قلَّة الأدب»، فالله المستعان من هذا التجنِّي والمبالغة في الذمِّ التي تُنبئ عن أشياء وأشياء!

 وأمَّا الشيخ مصطفى قالية فقد قلتَ في النسخة الأولى والثانية: «ونظيره وشبيهه قالية...»، وفي الثالثة زيادةُ بيانٍ: «ونظيره وشبيهه في مشيخة النت والفجاءة مصطفى قالية .... (ولعل القائمة لا زالت مفتوحة)».

والجواب عن هذا كالذي مضى من أن الشيخ مصطفى من شيوخ الواقع لا من شيوخ النت، وله دعوةٌ طيِّبة نفع الله بها في الغرب الجزائري، وقد شارك في دوراتٍ بعضها معك، وطُبع كتابه «أحكام المساجد» وهو مفيدٌ جدًّا، حتى قال الشيخ أزهر ـ حفظه الله ـ في كلمةٍ عنه: «ينبغي أن لا يخلو منه مسجد من مساجدنا»، ويكفي أنَّه قدَّم له الشَّيخ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ، وأنت تعرف شرط الشيخ وشدَّته فيما يُقَدِّم له من الكتب والرسائل، وقد حصل الشيخ مصطفى آخرًا أيضًا على شهادة الماجستير في جامعة الزَّيتونة، وسَجَّل فيها للدكتوراه، والحمد لله.

 وأما سؤالك الخامس وهو قولك: «هل تنصر من رفض قبول نصيحة من هو في مقام والده، ومن كان يتغنّى بمشيخته؟ فأنت تعلم علم اليقين، أنّ فضيلة الشيخ أزهر سلمه الله لم يألُ جهدًا في مناصحته بالعدول عن كتابة التغريدات، وعدم الخوض فيما هو أكبر منك، ولا يحشر أنفه في ذلك، إلى حد أنه غلّظ عليه القول، فأبى إلا العناد، والإصرار على ما هو عليه، ومواصلة كتابة تغريداته المُغرضة».

فالجواب: نعم، الشَّيخُ أنكر كتابته الأخيرة في مجموعته، وهي التي نقلتَها في أول المقال، وكانت العلاقة بينهما قد انقطعت بعد استقالة مرابط من الإشراف فأرسل إليه الشيخ أزهر رسالة يطلب منه أن يُمْسِك لسانه ويُقبِل على شأنه، لكن الأمور تسارعت بحيث صعب الاستدراك، ولم يبق مجالٌ لمناقشة الرأي كما هو عهده مع الشيخ، فالشيخ لم يكن في يوم من الأيام مُلزِمًا له ولا لغيره برأيه، بل كانت العلاقة معه قائمةً دائمًا على المباحثة والتشاور في دقيق الأمور وجليلها.

 وأما قولك: «ولعلَّ القائمة لا زالت مفتوحة» فما أظنُّك إلَّا تقصد تخويف من قد يُظهِرُ مخالفتك في مواقفك الأخيرة من إخوانك المشايخ والطلَّاب، فاعلم ـ سدَّدك الله ـ أنَّ في الناس من إذا اعتقد حقًّا قال به ولا يُبالي، وهم يعلمون علم اليقين أنَّ الرِّفعة بيد الله سبحانه، هو سبحانه الَّذي مَدْحُهُ على الحقيقة زَيْنٌ، وذَمُّهُ شَيْنٌ كما قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وغايةُ ما عندك أنَّك قد تؤذيهم بالكلام، وتُنَفِّر النَّاس من مجالسهم، ولا يضرُّهم ذلك شيئًا ما داموا يعلمونَ أنَّهم على الحقِّ، ويستيقِنُونَ أنَّ الله تعالى ناصِرهُم ومظهرهم بالحقِّ الَّذي هم عليه، طالَ أمَدُ هذه العَمَايَة أو قَصُر، فهم في جهادٍ لإصلاح أنفسهم وإصلاح النَّاس مِنْ حولِهم، وأنيسُهُم وسَلْوَى نفوسهم قولُ الله تعالى: «معذرة إلى ربِّكم ولعلَّهم يتَّقون»، وقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «فوالله لأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خير لك من حمر النَّعَم» [أخرجه البخاري (2942) ومسلم (2406)].

وقد علمنا ـ بحمد الله ـ ميزانك في الجرح والتعديل، والطريقة التي أنت عليها فيه، وهي التي قال فيها شيخنا محمد بن هادي ـ حفظه الله ـ في «كشف النِّقاب» (ص:3): «وأنا أنتظر منكم الردَّ حتى يعلم الناس ميزانكم في الجرح والتَّعديل، الذي هو فقط: أن يكون الشَّخص معكم سِيقَةً لكم تُسَيِّرُونَه كما تشاؤون.

فإن كان معكم فهو أصدق الناس وإن كان أكذب الناس وأفجر الناس، وإن لم يكن معكم فهو عندكم أكذب الناس وإن كان أتقى الناس وأصدق الناس».

فهذا هو ـ والله ـ ميزانكم الخائس، وعندنا الشواهد الكثيرة على ذلك من كلامكم الموثَّق، وسنظهرها للنَّاس إن شاء الله.

 وأمَّا إقسامك أنَّك ما ظلمتني ولا ظلمت صاحبي، فهذ يمينك الثَّالثة في هذه الرِّسالة، والحُكمُ فيها ليسَ إليك، وإنَّما الحكمُ يكون من غيرِ أحد الطَّرفين، وقد رضيتُ بالعقلاء ممَّن يعرفُ القضيَّة ومَنْ يَقف على كلامك وكلامي حَكَمًا، ولا أقول إنِّي سأخاصمك يوم القيامة بين يدي المَلِك الجبار سبحانه، لأنِّي أرجو أن تكون فيما قلتَ مجتهدًا متحرِّيًا للحقِّ ونصرة السنَّة، فإن أخطأتَ كُتب لك أجرُ اجتهادك.

 وقولك: «على نفسها جنت براقش»، فأنا ما جنيتُ على نفسي، وإنَّما دافعت عن أخي، وتعبَّدت لربِّي بنصرة المظلوم، وقولِ كلمة الحقِّ، وقد كنتُ أعلم أنَّني سأتأذَّى بسبب ذلك، ويصلني منها سوء، ولستُ نادمًا على ذلك، ولو رجعت الأيَّام لفعلتُ مثل الَّذي فعلتُ ولا أبالي، ولكن الَّذي جنى على نفسه هو الَّذي خالف أحكام الشَّريعة، فقال في أعراض المؤمنين بالظلم، وسعى بينهم بالتَّحريش والنميمة، وفرَّق السلفيِّين، وشَغَلَهم بما كانوا في غِنًى عنه.

وختامًا: أنصحك فضيلة الشَّيخ! أن تَرجِع إلى رشدك، وتُراجع إخوانك، وتتحلَّل ممَّن ظلمتَهُ منهم، فالفرصَةُ ممكنة، والأمرُ قريب، وأُذكِّرك بسنَّة الله تعالى في الظَّالم والباغي والسَّاعي في التَّفريق بين المؤمنين، فوالله ما قامت السَّماوات والأرض إلَّا بالحقِّ والعدل، ولن تقوم دعوةٌ إلَّا بالحقِّ والعدل، ومَنْ ظَنَّ خلافَ ذلك فقد ظنَّ بالله تعالى وبشرعِه وقدَرِه سوءًا، وسيُقِيمُ الله تعالى له شواهدَ الحَقِّ والعدلِ في نفسِه قبلَ غيره.

هذا جوابي عن رسالتك، وإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا، ولو تُرِكَ القَطَا لنامَ، و«مَنْ طرق الباب سمع الجواب»، وقد كان في الإمكان بسط الكلام إلى أكثر من هذا، ولكنِّي أقتصر على ما ذكرتُ جريًا على قاعدة الدَّفع بالأسهل فالأسهل، فإن أُحْوِجتُ إلى غير هذا، فلكلِّ مقامٍ من المقالِ مَا يُناسب الحال، والحمد لله ربِّ العالمين.


يوم الإثنين 29 ربيع الأول 1439.

بعد ثمانٍ وعشرينَ ليلةً من وُصولِ الرِّسالة إليه، وهو يحمَدُ الله ويُثنِي عليه ويصلِّي ويُسلِّم على نبيِّه وعلى آله وصحبه.




_____________________________
 (1) مع التَّنبيه على أنَّ «قرأه وصحَّحه» لا يلزم منه أنه وافقه وأيَّده كما يريدون أن يوهموا النَّاس ويفهموهم، لأنَّ الشيخ ربيعًا يعرف  الشَّيخ جمعة، ولا يعرف المردود عليهم فسمع من الشيخ جمعة ما عنده، لكنَّه لم يتكلَّم بموافقته أو تأييده، لم يحصل من الشيخ ربيع شيء من ذلك، بل عندنا قرينة واضحة تبعث على الشكِّ في هذا التأييد المزعوم، وهي أنَّ رسالة الشَّيخ جمعة حُذفت من «شبكة سحاب» ثلات مرَّات، مرَّة بعد مرَّة، كلَّما رفعوها حُذفت، مع أن من نشرها في المرة الثالثة كتب في العنوان: «قرأه وصحَّحه الشيخ ربيع»!! فكيف تُحذَف من سحاب الَّتي يُشرفُ عليها الشَّيخ ـ حفظه الله ـ لو كان أقرَّه وأيَّده!!



عثمان وما عثمان

 
الحمد لله حق حمده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، أبو عمرو المكِّي.
نشأ نشأةً كريمة، على الأخلاق العالية والشِّيم الرَّفيعة حتى صار مضرب مثل عند العرب في حبِّ النَّاس له وقربه منهم، كما أخرج ابن الأعرابي في «معجمه» (899)، واللَّالكائي في «أصول السُّنَّة» (2572) عن إمام التَّابعين عامر الشَّعبي قال: «كان عثمان في قريش محبَّبًا، يوصون إليه ويعظِّمونه، وإن كانت المرأة من العرب لترقِّص صبيِّها وهي تقول:
أحبُّك والرَّحمنْ ** حبَّ قريشٍ عثمانْ
ومن أجل هذا أرسله النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى مكَّة في الحديبية، قال في «سمط النُّجوم» (2/515): «وإنَّما أرسله عليه الصَّلاة والسَّلام لعزَّته فيهم، ولو كان أحدٌ أعزَّ ببطن مكَّة من عثمان لبعثه، لأنَّه كان له في قريش محبَّة وعزَّة لا توصفان حتَّى ضربوا بذلك المثل».
أسلم قديمًا، خامس خمسة أو سادس ستَّة على يد أبي بكر رضي الله عنهما، فعلا شأنه في الإسلام جدًّا لطيب معدنه، فالإسلام يزيد إلى عقل العاقل عقلًا، وإلى حلمه حلمًا، ومن كلِّ خلق كريم شيئًا، إذ «النَّاس معادن» وخيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام كما صحَّ بذلك الخبر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
زوَّجه النَّبي صلى الله عليه وسلم ابنته رقيَّة فهاجر بها إلى الحبشة الهجرة الأولى فارَّين بدينهما، فهو أوَّل من هاجر بأهله من هذه الأمَّة، ثمَّ رجع إلى مكَّة، وبقي بها إلى أن هاجر الهجرة الثَّانية إلى المدينة، فكان له فيها المواقف المشهودة والمقامات العالية في نفسه وماله رضي الله عنه.
وفي بدر مرضت رقية رضي الله عنها فأمره النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقيم على تمريضها، وضرب له بسهم في الأجر والغنيمة، فهو البدريُّ الَّذي لم يشهدها، ولمَّا رجع النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم من بدر توفِّيت رقيَّة فزوَّجه النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم ابنته الأخرى أمَّ كلثوم، فهو بذلك ذو النُّورين، زوجُ بنتيْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
بشَّره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالجنة وهو يمشي بين النَّاس، وضمن له الجنَّة بشرائه بئر رومة، ولما جهَّز جيش العسرة قال عليه السَّلام: «ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم» [أخرجه التِّرمذي (3701) وحسَّنه هو والألباني].
وأخبر عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّ الملائكة تستحيي منه [أخرجه مسلم (2401)].
فلهذا وغيره كان المسلمون يعرفون له فضله ومكانه، ويعلمون أنَّه خيرهم بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحبيه أبي بكر وعمر، كما أخبر عنهم بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقال الإمام المتفنِّن أبو محمَّد ابن قتيبة في كتاب «المعارف» (ص192): «وكانت أوَّل غزوة غزيت في خلافته «الرّيّ» وأمير الجيوش أبو موسى الأشعريّ، ثمَّ «الإسكندريَّة»، ثمَّ «سابور»، ثمَّ «إفريقيَّة»، ثمَّ «قبرس» من سواحل بحر الرُّوم، و«إصطخر الآخر»، و«فارس الأولى»، ثمَّ «جور»، و«فارس الآخرة»، ثمَّ «طبرستان»، و«دارابجرد»، و«كرمان»، و«سجستان»، ثمَّ «الأساورة» في البحر، ثمَّ حصون «قبرس»، ثمَّ «ساحل الأردن»، ثمَّ كانت «مرو» على يد عبد الله بن عامر سنة أربع وثلاثين». اهـ
فاتَّسعت دار الإسلام في خلافته اتِّساعا عظيمًا، ودخل فيهم من لم يحسُن إسلامه من الأوباش، والمندسُّين، والمنافقين.
وكان النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قد بشَّره بالجنَّة على بلوى تصيبه، وأخبر أنَّ رحى الإسلام ستدور على خمس وثلاثين أو ست وثلاثين وتكون فتنة، قال النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم مشيرًا إلى عثمان: «هذا وأصحابه يومئذ على الحق» [أخرجه أحمد (18060) وغيره وهو حسن بشواهده].
فكانت الفتنة هي خروج الخارجين من مصر والعراق ومحاصرتهم عثمان رضي الله عنه في ذي الحجَّة سنة خمس وثلاثين، ليُقتل في داره شهيدًا كما شهد له بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا رقي أُحدًا هو أبو بكر وعمر وعثمان فاهتزَّ أُحد فقال عليه السَّلام: «اثبت أحد، فإنَّما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان» [أخرجه البخاري (3675)].
توفِّي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاجتمع الصَّحابة في السَّقيفة فبايعوا أبا بكر، واستخلف     أبو بكر عمر، فلمَّا حضرت عمر الوفاة جعل الأمر شورى في ستَّة نفر، شهد لهم عمرُ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفِّي وهو راضٍ عنهم، فاتَّفقت كلمتهم وكلمة من وراءهم من المسلمين على تولية عثمان إذ لم يَرَوْا فيهم من يعدله.
فخلف على أهل الإسلام خلافةَ رشد، وولايةَ عدل وفضل، وإسباغ في العطايا، ولين في المعاملة، فلمَّا أراد الله أن يُمضي ما سبق في قدره اجتمع عليه الأوباش وحثالة النَّاس ينقمون عليه أمورًا بعضها من مناقبه قلبوها مذامَّ، وبعضها فهمٌ منه في دين الله تعالى جهلوه هم، ورشدٌ غَبِي عليهم.
حاصروه في الدَّار أكثر من شهر ـ على المشهور ـ وأجمعوا أمرهم على أن يخلع نفسه أو يقتلوه، فاستشار بعضَ الأكابر من أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في أمره، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال له عبد الله ـ بعد كلام ـ: «لا أرى أن تخلع قميصا قمصكه الله فتكون سنَّة، كلَّما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه» [أخرجه ابن أبي شيبة (37656) وغيره بإسناد حسن كما في «فتنة مقتل عثمان» (1/148) ].
ووافق هذا ما عند عثمان رضي الله عنه فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان قد أسرَّ إليه أن «إن أرادوك أن تخلع قميصًا قمصكه الله فلا تفعل» [أخرجه أحمد (24466) وقوَّاه الألباني].
ثمَّ إن أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ممَّن شهد يوم الدَّار قد تدرَّعوا بأسلحتهم وجاؤوا إلى الدَّار لينصروا عثمان، منهم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزُّبير وأبو هريرة والمغيرة بن شعبة وحارثة بن النُّعمان وغيرهم، ونادى كعب بن مالك في الأنصار: «يا معشر الأنصار كونوا أنصار الله مرَّتين» فجاؤوا فوقفوا بالباب، فكان عثمان ينهاهم عن القتال، بل يعزم عليهم ويقول: «أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم» [انظر هذه الآثار وغيرها في كتاب «فتنة مقتل عثمان» (1/159- 165)]، وقد كان يقول رضي الله عنه وأرضاه كما في «المسند» (481) وغيره: «لن أكون أوَّل من خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أمَّته بسفك الدِّماء».
فقتل رضي الله عنه شهيدًا مستمسكًا بوصيَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعهده إليه، محافظًا على دماء المسلمين حاقنًا لها، مسترخصًا نفسه في ذلك، وقد صحَّ أنَّه قُتل وهو ناشرٌ المصحفَ يقرأ فيه فوقع دمه على قول الله تعالى: «فسيكفيكهم الله وهو السَّميع العليم».
فهذا هو عثمان رضي الله عنه وهذه هي سيرته وقصَّة مقتله.
بسط ظلَّ الإسلام على أرض الله تعالى ثنتي عشرة سنة، وفتح الفتوح ومصَّر الأمصار، وتوفِّي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنه، يحثُّ على التَّمسك بهديه والاقتداء بسنَّته، وصار قدوةً للنَّاس في الصَّبر والحلم والحرص على دماء أهل الإسلام، وقد كان معه من أنصاره ما لو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه، ولو أراد لقاتَلَهم بهم حتى يخرجهم من أقطارها كما قال سليط بن سليط.
وبتعبير عصريٍّ لا أحبُّه، ولكنِّي مضطرٌّ إليه محاكاةً للمفترين: لقد دخل عثمان التَّاريخ من أوسع أبوابه، وإنَّ له عند ربِّه الجنَّات العالية الَّتي لا يسمَع فيها لغوًا ولا تأثيما إلَّا قيلًا سلامًا سلامًا.
جاء في آخر الزَّمان أناس يجهلون تاريخ الإسلام وحقائقه، ورجالاته ومبادئهم الَّتي عاشوا عليها وماتوا من أجلها، فأخذوا فكرًا غربيًّا ملوَّثًا، وتشبَّعوا بمفاهيم ومبادئ أحسنُ أحوالها أن تكون بشريَّة قابلة للخطأ والصَّواب، وهي إلى الخطأ أقرب، من نحو تداول الحكم، وديمقراطيَّة السُّلطة وغيرها، فقال أحد هؤلاء المفترين بملئ فيه كاذبًا متجنِّيًا وهو أحمد مراني (الحزبي الحركي والوزير السابق): «دراسة معمَّقة: كلَّما تشبَّث شخص بالحكم خرج من أضيق أبواب التَّاريخ، إلَّا وكانت مأساويَّة (يعني نهايته)، بدءً من عثمان بن عفَّان المبشَّر بالجنَّة، الَّذي تستحي منه الملائكة، أين قتل؟ في بيته! من طرف ناس ثوَّار، لأنَّ عارفين بأنَّ الشَّخص هذا ما يخرجش (أي: لن يخرج) من الحكم حتَّى يموت، فإذن قتلوه، لو كانوا يعلمون بأنَّ بعد سنة، سنتين، ستكون تداول على الحكم كان ممكن يصبروا، ثمَّ عليُّ بن أبي طالب ثمَّ الأمويين..».
هذه كلمات قالها ـ بل قاءها ـ رجل من رموز الحركة الإسلاميَّة في وبلادنا، وقد سبق وأن استَوْزَر على شؤون الدِّين والأوقاف، يقول هذه الكلمات التي تضمَّنت:
أنَّ عثمان قُتل لأنَّه تشبَّث بالسُّلطة.
ومثله عليُّ بن أبي طالب.
وهكذا الأمويون.
وأنَّ الثوَّار لو علموا أنَّه سيتنحَّى بعد سنة أو سنتين لاحتمل أن يصبروا ولا يقتلوه.
أقول: وصف الإبراهيميُّ قومًا فقال: «يتكلَّمون في قضايا كبيرة بعقول صغيرة ونظرة قاصرة». فلا أرى هذا المرَّاني (بفتح الميم اسمُه، وبضمِّها نسبةً على غير قياس إلى مرارة ما صدر منه) إلَّا أنَّه تناول قضيَّة كبيرة بعقل صغير ونظرة قاصرة، إن سلم من فساد عَقْدٍ وطويَّة، ولوثةٍ رافضيَّة.
فالَّذين خرجوا على عثمان إنَّما خرجوا طلبًا للدُّنيا وطمعا في حطامها، ولذلك صحَّ أنَّه لمَّا خرج إليهم كانَّ أوَّل ما اعترضوا عليه به أنه حمى الحمى لإبل الصَّدقة، ونزعوا بقول الله تعالى في يونس: «آلله أذن لكم أم على الله تفترون» فقالوا له: «آلله أذن لك أم على الله تفتري»، فبيَّن لهم رضي الله عنه فيما نزلت، وأخبرهم بأنَّ عمرا قد سبقه إلى مثله، وذكروا امورا أخرى فأجابهم هو وأجابهم رسلُه من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسكنوا ورجعوا، وفي طريقهم إلى مصر اعترضهم رجلٌ يزعم أنَّ معه كتابًا من أمير المؤمنين عثمان إلى واليه بمصر، يأمره أن إذا قدموا عليه أن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم، فرجعوا إلى عثمان فحصروه حتَّى قتلوه عليهم لعائن الله إلى يوم يبعثون.
فهل في هذا وغيره ممَّا حُكي عنهم من الاعتراض ما يدلُّ على أنَّ مرادهم التَّداول على السُّلطة كما زعم المفتري؟
وهل فيه ما يفهم منه ـ ولو من بعيد ـ أنَّهم لو علموا أنَّه سيتنحى ولو بعد سنتين فإنَّه من الممكن أن يصبروا؟
إنَّها يا مسلوب المعالي! شهادةٌ كتَبَها عليك أملاكُ الرَّحمن، وسوف تُسأل عنها حين تقف بين يديْ الدَّيَّان، كما قال بارينا سبحانه: «ستُكتب شهادتهم ويسألون».
ليتك رحمت نفسك فصُنتها عن عرض عثمان إذ قد صان الله يدك عن دمه.
اللَّهم إنَّا نبرأ إليك ممَّا يقوله الأفَّاكون ويفتريه المفترون، ونشهدك ربَّنا على حبِّ أصحاب نبيِّك الَّذين اخترتهم لصحبته ونصرة دينه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

باب من أبواب السُّحت يتساهل فيه كثير من التُّجار

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع هداه، أمَّا بعد:
فإنَّ لحلِّ المال وطيبه في طيب حياة المسلم أعظم الأثر:
ففيه رضاء الرحمن جلَّ وعلا، فإنَّ طلب الحلال من عبادات الأبرار، وكان الثَّوري يسمِّيه: "عمل الأبطال".
وفيه البركة في المال
والعافية في الولد
والسَّلامة من الآفات
والتخلِّي من مانع من استجابة الدُّعاء
والسَّلامة من موجِب عظيمٍ من موجبات النَّار
وفيه سكون النَّفس وطيبها
وفيه الأحدوثة الحسنة والذِّكر الطيِّب
وتورث الفراسة الصَّادقة
وهي فوق ذلك من أكبر ما يتعبَّد به المسلم ربَّه تعالى.
وهذا زمن قد بُسطت فيه الدُّنيا وتوسَّعت التِّجارات على كثير من النَّاس، ففتح من أبواب المال الحرام ما لم يكن متاحًا قبلُ، وبعض وجوهه ظاهر باد، وبعضه ممَّا يخفى عن كثير من العباد.
ومن من أعظم ما شاع عند كثير من التُّجار اليوم أن يأخذ سلعةً من تاجر آخر على أن ينقده ثمنها إذا باعها، ثم إنَّ كثيرا منهم - إن لم اقل: أكثرهم - يبيع السِّلعة ولا ينقد الثَّمن، إمَّا كلَّه وإمَّا بعضه، لكن يشتري به سلعة أخرى ليبيعها ويربح فيها، ويتأخَّر على الأوَّل في الدَّفع، وهكذا يفعل، حتَّى ربَّما يكون أكثر رأس ماله الَّذي يتاجر به من أموال النَّاس الَّتي حلَّ أجلُها ولم يرُدَّها بعدُ إلى أصحابها، وهو يظنُّ بذلك أن لا تبعة عليه، المهمُّ أن يدفع.
وهذا غلط وجهل قبيح وشبهة إبليسية يجرُّ بها المستغفل إلى الحرام، فإنَّ المسلمين على شروطهم، فإذا أخذ سلعة لينقد ثمنها إذا باع، وجب عليه ذلك بمجرَّد أن يقبض ثمنها، ولو لم يشترطه عليه صاحب السِّلعة لفظًا، لأنَّ "المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا"، ثم إنَّ "مطل الغنيِّ ظلم" كما ثبت بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومطل الغني هو تأخُّر القادر على دفع الدَّين عن دفعه بعدما حلَّ أجله.
ففاعل هذا الفعل خائن للشَّرط، ظالم للمدين، بل هو سارق من السَّارقين، فقد أخرج المرُّوذي في كتاب "الورع" له (91) عن يونس بن عبيد رحمه الله أنه قال: "ما السَّارق عندي بأسوأ من التَّاجر يشتري المتاع إلى أجل ثمَّ يضرب فيه إلى البلدان، لا يكتسب درهما بعد الأجل إلا كان حرامًا".
الله أكبر، هذا يونس بن عبيد أحد أئمَّة الإسلام بالبصرة في أيَّامه يقول: إنَّ كل درهم يكتسبه التَّاجر من تجارته بأموال النَّاس بعد حلول الأجل هو من الكسب المحرَّم، فاتَّقوا الله معاشر التُّجار، وأدوا الأمانات إلى أهلها، فليس في نعيم الدُّنيا ما يستحقُّ أن تعرِّض به نفسك للنار.
أسال الله تعالى أن يجعلنا من الطيِّبين المطيَّبين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وسلَّم تسليما.

غلطٌ في ترجمة ابن عيينة من طبعة بشار عواد لـ"تهذيب الكمال"



وقع في ترجمة سفيان بن عيينة من "تهذيب الكمال" (189/11) طبعة الدُّكتور بشَّار عواد معروف:
قال سفيان" "رأيت كأنَّ أسناني
كلَّها سقطت، فذكرت ذلك للزُّهري فقال: تموت أسنانك وتبقى أنت، فمات أسناني وبقيت، فجعل الله كل عُدُولي محدثًا".
هكذا ضبها الدُّكتور بشَّّار: "عُدُولي"، بضم العين والدَّال، كأنَّه فهم أنَّ المراد بها جمع عديل الَّذي هو اللِّدَةُ والقرين، والصَّواب: "كلَّ عدُوٍّ لي محدِّثا"، وقد وقع على الصَّواب في "سير أعلام النُّبلاء" (8/460)، وعلَّق عليه الذَّهبي بقوله: "قلت: قال هذا من شدَّة ما كان يلقى من ازدحام أصحاب الحديث عليه حتى يُبرموه".

اتفاق غريب جدا في أسماء أول وآخر الخلفاء

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

هذه واحدة من نفائس الجواهر التي نثرها الحافظ ابن كثير رحمه الله في أثناء تواليفه العجيبة البديعة المستوعبة، ومن ذلك كتاب «البداية والنهاية»، فبعد أن ساق حوداث الإسلام إلى سنة (656)، السنةِ التي بها نهاية الخلافة العباسيَّة، انتبه رحمه الله إلى شيء عجيب طريف، وهو أنَّ الخلافة الأموية والعباسية وأيضًا دولة الفاطميين الشيعة ببلاد المغرب كلُّ واحدة منها كان اسم أول الملوك فيها موافقا لاسم آخرهم، فقال رحمه الله في تقرير ذلك (17/367): «كان أوَّل ملوك الإسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتَتَح بمعاوية، المختتم بمعاوية.
ثمَّ ملك مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، ثمَّ ابنه عبد الملك، ثمَّ الوليد بن عبد الملك، ثمَّ أخوه سليمان، ثمَّ ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثمَّ يزيد بن عبد الملك ثمَّ هشام بن عبد الملك، ثمَّ الوليد بن يزيد، ثمَّ يزيد بن الوليد، ثمَّ أخوه إبراهيم الناقص، وهو ابن الوليد أيضًا، ثمَّ مروان بن محمد الملقَّب بالحمار، وكان آخرهم، فكان أوَّلهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان.
وكان أول خلفاء بني العباس السفاح، واسمه عبد الله، وكان آخرهم المستعصم واسمه عبد الله.
كذلك أول خلفاء الفاطميين اسمه عبد الله المهدي، وآخرهم عبد الله العاضد.
وهذا اتِّفاق غريب جدًّا، قل من يتنبه له، والله سبحانه أعلم»اهـ.
ومن محاسن هذا الاتِّفاق اتفق آخر تابع له وهو أن ابن كثير أورده بعد إيراد قصَّة سقوط عاصمة الخلافة الَّتي تتفطَّر لها القلوب كمدا، وتذوب منها الجبال حسرة، فلو انفصل عنها القارئ إلى سواها على حاله لأوشك أن لا يفارق الحزن قلبه آخر ما عليه، فأوردها هناك رحمه الله فاتَّفق أنَّ فيها ما يسلِّي عن بعض الهمِّ الذي يعتصر الفؤاد حزنًا بعد تلك الحوادث، والله المستعان.