تعديل

السبت، 30 ديسمبر 2017

البيان لما يجب من العلم على الكفاية وما يجب على الأعيان

البيان لما يجب من العلم على الكفاية وما يجب على الأعيان
بعون الله نبتدي وإياه نستكفي وما توفيقنا إلا بالله جلّ ذكره:
وبعد فإن مّما لاشك فيه ولا اختلاف أنّ من العلم ما هو واجب لا يسع مكلفا جهله ومنه ما هو فرص كفاية إذا قام به من العلماء من يكفي سقطت المطالبة بتحصيله عن الباقين وقد ذكر هذا الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة في الفقرة961 إلى الفقرة997 وأصّل هناك لفرض الكفاية واستدل له ومثّل، غير أنه لم يذكر ضابطا يتمايز به النوعان.
ثم رأيت الشافعي الثاني أبا العباس ابن سريج رحمه الله ذكر ضابطا لفرض العين في آخر كتابه "الودائع لمنصوص الشرائع" وأنه ما يحتاج إليه المكلف في أداء ما دخل فيه من عبادة أو معاملة، وهو ضابط جيّد حمله عنه الناس وتكلموا به غير أنه يحتاج إلى إيضاح وشرح.
وبقي فرض الكفاية مهملا بلا ضابط يضبطه فخاض الخلق حتى أدخلوا فيه ما ليس منه.
ثم إني قد قرأت كلاما متينا محررا للمقام شافيا من السقام للإمام المحقق أبي عبد الله ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه "مفتاح دار السعادة"1\156 شرح فيه النوعين وما يدخل فيهما شرحا مفصلا موعبا فقال:
"إن العلم المفروض تعلمه ضربان:
ضرب منه فرض عين لا يسع مسلما جهله وهو أنواع:
النوع الأول: علم أصول الإيمان الخمسة: الإيمان بالله و ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فإن من لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان ولا يستحق اسم المؤمن,قال الله تعالى {ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وقال {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا }، ولما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر" قال: "صدقت" فالإيمان بهذه الأصول فرع معرفتها والعلم بها
النوع الثاني: علم شرائع الإسلام، واللازم منها علم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها
النوع الثالث: علم المحرمات الخمسة التي اتفقت عليها الرسل والشرائع والكتب الإلهية وهي المذكورة في قوله تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون } فهذه محرمات على كل واحد في كل حال على لسان كل رسول لا تباح قط،ولهذا أتى فيها بإنما المفيدة للحصر مطلقا، وغيرها محرم في غيره كالميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه فهذه ليست محرمة على الإطلاق والدوام فلم تدخل تحت التحريم المحصور المطلق
النوع الرابع: علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصا وعموما والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم فليس الواجب على الإمام مع رعيّته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرته وليس الواجب على من نصب نفسه لأنواع التجارات من تعلّم أحكام البياعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجة إليه وتفصيل هذه الجملة لا ينضبط بحدّ لاختلاف الناس في أسباب العلم الواجب وذلك يرجع إلى ثلاثة أصول: اعتقاد وفعل وترك، فالواجب في الاعتقاد مطابقته للحق في نفسه، والواجب في العمل معرفته وموافقة حركات العبد الظاهرة والباطنة الاختيارية للشرع أمرا وإباحة، والواجب في الترك معرفة موافقة الكف والسكون لمرضات الله وأن المطلوب منه إبقاء هذا الفعل من عدمه المستصحب فلا يتحرك في طلبه أو كف النفس عن فعله على الطريقتين
وقد دخل في هذه الجملة علم حركات القلوب والأبدان
وأما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطا صحيحا فان كل أحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضا،فيدخل بعض الناس في ذلك علم الطب وعلم الحساب وعلم الهندسة والمساحة وبعضهم يزيد على ذلك علم أصول الصناعة كالفلاحة والحياكة والحدادة والخياطة ونحوها وبعضهم يزيد على ذلك علم المنطق وربما جعله فرض عين وبناه على عدم صحة إيمان المقلد،وكل هذا هوس وخبط،فلا فرض إلا ما فرضه الله ورسوله فيا سبحان الله هل فرض الله على كل مسلم أن يكون طبيبا حجّاما حاسبا مهندسا أو حائكا أو فلاحا أو نجارا أو خياطا فإن فرض الكفاية كفرض العين في تعلقه بعموم المكلفين وإنما يخالفه في سقوطه بفعل البعض، ثم على قول هذا القائل يكون الله قد فرض على كل أحد جملة هذه الصنائع والعلوم فإنه ليس واحد منها فرضا على معين والآخر على معين آخر بل عموم فرضيتها مشتركة بين العموم فيجب على كل أحد أن يكون حاسبا حائكا خياطا نجارا فلاحا طبيبا مهندسا فإن قال: المجموع فرض على المجموع،لم يكن قولك إن كل واحد منها فرض كفاية صحيحا لأن فرض الكفاية يجب على العموم
وأما المنطق فلو كان علما صحيحا كان غايته أن يكون كالمساحة والهندسة ونحوها فكيف وباطله أضعاف حقه، وفساده وتناقض أصوله واختلاف مبانيه توجب مراعاتها الذهن أن يزيغ في فكره، ولا يؤمن بهذا إلا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه ومناقضة كثير منه للعقل الصريح"
وذكر كلاما في المنطق وفساده وردود علماء المسلمين عليه ثم قال:
"ومن الناس من يقول إن علوم العربية من التصريف والنحو واللغة والمعاني والبيان ونحوها تعلمها فرض كفاية لتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها، ومن الناس من يقول إن تعلم أصول الفقه فرض كفاية لأنه العلم الذي يعرف به الدليل ومرتبته وكيفية الاستدلال.
وهذه الأقوال وإن كانت أقرب إلى الصواب من القول الأول فليس وجوبها عاما على كل أحد ولا في كل وقت وإنما يجب وجوب الوسائل في بعض الأزمان وعلى بعض الأشخاص، بخلاف الفرض الذي يعم وجوبه كل أحد وهو علم الإيمان وشرائع الإسلام فهذا هو الواجب.
وأما ما عداه فإن توقفت معرفته عليه فهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به ويكون الواجب منه القدر الموصل إليه دون المسائل التي هي فضله لا يفتقر معرفة الخطاب وفهمه إليها،فلا يطلق القول بأن علم العربية واجب على الإطلاق إذ الكثير منه ومن مسائله وبحوثه لا يتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها، وكذلك أصول الفقه القدر الذي يتوقف فهم الخطاب عليه منه يجب معرفته دون المسائل المقررة والأبحاث التي هي فضلة فكيف يقال إن تعلمها واجب.
و بالجملة فالمطلوب الواجب من العبد من العلوم والأعمال إذا توقف على شيء منها كان ذلك الشيء واجبا وجوب الوسائل، ومعلوم أن ذلك التوقف يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والألسنة والأذهان فليس لذلك حدّ مقدر والله أعلم".
آخر البيان، والحمد لله المبتدئ بالإحسان.