تعديل

السبت، 30 ديسمبر 2017

طريق قلّ سالكه، ومنبع قلّ وارده

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم



الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع هداه، أمَّا بعـد:


فهذه خاطرةٌ تتلجلج في صدري منذ أمد ولم أقدر على ألَّا أنفُثها لأُخفِّف من وجْد الكبد الحرَّى، أجريت القلم بالتَّدوين ولا أدري من أين أبدأ، أو ماذا سأكتب.


معنًى هو من آكد حقوق الدِّيانة علينا.


ولو لم يكن من حقوقها فهو ممَّا ينبغي أن نأخذ به أنفسنا إن كانت من نفوس ذوي المروءات.


إذا كان الله تعالى قد خلق الخلق لطاعته وإقامة دينه، ويجتهدُ الواحد منَّا في أن يتعلَّم شرع الله ويعمل به ويبثُّه في أهله ومَن حوله من ذويه، وغرضُه من جميع ذلك أن يُطاع الله ولا يعصى، ويوحَّد ولا يشرَك به، ويشكرَ فلا يُكفر، إذ هو الخالق المتفضِّل المنَّان، ذو الجلالة والإكرام، المستحقُّ للعبادة بكماله وجلاله، كاستحقاقه لها بإفضاله وإنعامه كما قال تعالى: «الحمد لله ربِّ العالمين»، أخبر عن استحقاقه المحامد كلَّها:
1ـ بألوهيَّته المتضمِّنة كمال أوصافه الَّتي تألهه من أجلها القلوب.
2ـ وبربوبيَّته الَّتي قام بها على خلقه أجميعن.


فعلى هذا، فالصَّادق في محبَّته إفرادَ الرَّبِّ تعالى بالعبادة والطَّاعة يرضيه أن يتحقَّق ذلك بأيِّ طريق حصل، سواء أكان ذلك من جهته أم جهة غيره من النَّاس، تسبَّب هو في ذلك أم لم يتسبَّب فيه، وأُشرك فيه أم لم يُشرَك.


نعم، يحرص العاقل العارف بحظّ نفسه والسَّاعي في كرامتها عند باريها أن يكون له من طاعة الله وعبادته مباشرةً وتسبُّبًا أوفى نصيب، لأنَّ أولئك هم أحباب الله وأهل كرامته كما قال الحسن رحمه الله في قوله تعالى: «ومن أحسن قولًا ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنَّني من المسلمين»، قال الحسن: «هذا حبيب الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوةُ الله من خلقه، أجاب الله في دعوته، ودعا النَّاس إلى ما أجاب الله من دعوته».


لكن..
إن لم يكن مشاركًا في الخير وطرفًا فيه فصدقُه يحمله ـ حتمًا ـ على أن يحبَّ ما حصل منه ولو على يد غيره، وكراهته لذلك دليلٌ على أنه فاقدٌ للصِّدق كلِّه أو بعضه.


الصِّدق شيءٌ عظيم ومعنى كبير، تكلَّم النَّاس في حدِّه وحقيقته، وخاضوا في أعراضه ودلائله، وأصدق وصفٍ للصِّدق ـ فيما أحسب ـ كلمةُ الشَّاطبي أبي إسحاق إذ قال في كتاب «الموافقات» ما معناه أنَّ الصِّدق هو مطابقة الظَّاهر للباطن بأن يقع القول والفعل على حسب ما في القلب، وهي ـ بالله ـ للدَّرجة الَّتي لا يُبلَّغُها إلا صدِّيق، بل إنَّ تسميةَ أعلى درجات الولاية بـ«الصِّديقيَّة»، واختصاصِ أفضل الأمَّة بعد نبِّيها صلَّى الله عليه وسلَّم باسم «الصِّديق»، دليلٌ على أنَّ الصِّدق قبَّة شُعب الخير من دين الإسلام.


فلهذا تأكَّد في حقِّ طالب العلم والمنتصبين لدعوة الخير عمومًا أن يجرِّدوا أنفسَهم للصِّدق ويحملوها عليه، لينزاح بعض الزَّغَل الَّذي شاب القلوب، والغلِّ الَّذي كدر صفو بعض النُّفوس.


قال وكيع رحمه الله: «هذه صناعة لا يرتفع فيها إلا صادق»، يريد صناعةَ العلم وبثَّه في النَّاس والتَّحديث به، وهو أعمُّ من صدق اللَّهجة واستقامة اللِّسان.


وما أُراني محتاجًا إلى ذكر بعض النَّماذج المأثورة عن أجيال الصَّادقين من أئمَّة الإسلام وهداته، فإنَّها مذكورة مشهورة، لكنِّي أذكِّر بواحدة منها جليلة الموقع، وهي ما ثبت عن الشَّافعي رحمه الله بأصحِّ إسناد أنَّه كان يرجو لو يُنشر علمه ويتعلَّمه النَّاس ولا يُعرف أنَّه من قبَله، ولا أنَّه خرج منه، قال السَّاجي: سمعتُ الرَّبيع يقول: سمعتُ الشَّافعي يقول: «وددت أنَّ الخلق تعلَّموا هذا العلم على أن لا يُنسب إليَّ منه حرف»، قال النَّووي رحمه الله في أوَّل «شرح المهذَّب»: «فهذا إسناد لا يُتمارى في صحَّته، فكتاب السَّاجي متواتر عنه، وسمعه إمام من إمام».


لله أبو عبد الله وصدقُه، فلولا أنَّه بلغ من الصِّدق مبلغًا، ما عرف السَّبيل إلى أن يقول ما قال، فهذه مقالةٌ جليلة تصلح أن يقيس بها النَّاس أنفسَهم، وقد جعلها أبو حاتم ابن حبَّان في «صحيحه» (5/498ـ الإحسان) إحدى ثلاث كلمات ما تكلَّم أحدٌ بها في الإسلام قبل الشَّافعي ولا بعده إلَّا أن يكون أخذها عنه، وقد ثبَّتُّ الإحالة ليكون من تاقت نفسه إلى معرفة الكلمتين الأخريين يقفُ عليهما هناك ـ إن شاء الله ـ.


فمن أراد أن يسلك السَّبيل ويكون عونًا على الخير فليأخذ نفسه بالصِّدق، فإن وجد من نفسه كراهةً للفائدة أو المسألة تنتشرُ عن غيره، وتؤخذ ممَّن سواه فليرجع إلى نفسه بالتُّهمة وليجتهد في أن يدعو الله تعالى أن يُذهب ذلك من قلبه، فإنَّه داءٌ مهلك قد يقذف به إلى ما لا يُحمد.
وإلَّا فالعاقل وإن أحبَّ أن يُشرَك في الخير فإنَّ في عدم ذلك راحة، وبراءةً من التَّبعة، وفراغًا لغير ذلك من الأعمال، فوالله إنَّا لنعرف عن أشياخنا في هذا الباب من التَّعب المضني ما يودُّ الواحد منهم ألَّا يكون تعلَّم أو علَّم، ولولا أنَّهم يعتقدون أنَّ الجلوس للنَّاس والبروز إليهم واجبٌ أوجبه الله عليهم وألزمهم إيَّاه وسيحاسبون عليه إن تركوه لكان الواحد منهم يشتري الفِكاك بما حوى جرابُه، ولكن ما حيلةُ الطَّبيب وقد أُلقي المريض بين يديه واشرأبت إليه الأعناق إلَّا أن يداويَ بما يقدر.


وقد كان السَّلف يتدافعون الفتيا، لا زهدًا في الخير ورغبة عنه، ولكن خشيةَ الخطأ والتَّبعة، وما أحسن وأجمل ما قال الإمام سفيان الثَّوري رحمه الله في وصيَّته لعبَّاد بن عبَّاد ـ وهي الوصيَّة المشهورة العظيمة الَّتي رواها أبو بكرالمرُّوذي في «أخلاق الشُّيوخ» وغيره ـ : «وما لقيت من المسألة والفتيا فاغتنم ذلك ولا تنافسهم فيه، وإيَّاك أن تكون كمن يحبُّ أن يُعمل بقوله أو يُنشر قوله، أو يُسمع من قوله، فإذا تُرك ذاك منه عرف فيه».



وإنَّ من تمام صدق الطَّالب أن يحبَّ لإخوانه من تعلُّم العلم وإتقانه وإدراك الفائدة والدَّلالة على موضعها من الكتب والشُّيوخ ما يحبُّ لنفسه، لأنَّ في ذلك كثرةً للخير وانتشارًا للسُّنن، وقد عاب علماؤنا الضَّنَّ بالعلم والشحَّ به لما يُشعر به من خلاف هذا المقصِد.
فضلًا عمَّا يُبتلى به الضَّنين بالعلم من ذهاب بركة العلم وفواته.



والحاصل أنَّ الصِّدق هو الصِّناعة الَّتي من أحكَمها فقد حاز السَّبق فيما يعمل ويزاول، وكان له ممَّا يريده الظَّفرُ بالمقصود الَّذي يسعى إليه ويؤمِّل.


فاللَّهم اجعلنا من عبادك الصَّادقين.