تعديل

الأحد، 31 ديسمبر 2017

كأس المحادة لله ورسوله

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم


الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع هداه، أمَّا بعد:

فإنَّ من العجب أنَّ العرب أكثرت من استعمال الكأس في الخمر المذهبة للعقل، حتى صار ذلك عرفًا شائعا في استعمالهم من غير قيد، قال طرفة:

متى تأتني أصبحك كأسًا رويَّة ** وإن كنت عنها غانيًا فاغن وازددِ
وقال آخر:

شربتُ على الجوزاء كأسًا رويَّةً ** وأخرى على الشِّعرى إذا ما استقلَّت

في شواهدَ كثيرة لا تُحصى.

فسيق الماجنون من أصحاب كرة القدم إلى أن سمَّوا المنافسة عليها «كأس العالم» كأنَّها الخمرة التي تذهب بعقول العالم وتنسيهم أنفسهم ومصالحهم، وقد حصل، إذ هذه اللُّعبة قد ملكت على أكثر النَّاس قلوبهم، دعني من الكفار والمشركين، فلؤلئك قلوب قد خلت من ذكر الله وتوحيده، وأفئدة أقفرت من معرفته وعبادته، فلا جرم تمتلئ بما سوى ذلك من اللَّهو الباطل والضَّلال.
لكن العجب كيف تستولي هذه الكأس المقبوحة على قلوب سواد عظيمٍ من المسلمين حتَّى ينفقوا عليها الأموال، ويضيعوا من أجلها الأهل والعيال، بل ربَّما يضيعوا فرائض الله وحدوده، ويرتكبوا نواهيه ويتعدَّوا حدوده، وهو واقع أليم وحالٌ في البلاء عظيم، جلَّ خطبُه، وعظم شأنه فإلى الله وحده المشتكى.

معشر العقلاء!

خلق الله الإنسان وأكرمه، وجعل قلبه محلًّا لمعرفته وجوارحه أركان طاعته، ووعده إن أدَّى ذلك ووفَّى به بجنات عرضها الأرض والسَّماء، وإن تركه وضيَّعه فالسَّموم والحميم في لظى الجحيم.

أعان الله الإنسان على نفسه بفطرة موحِّدة منيبة، وساعدها بالواعظين والمذكِّرين من نفسه ومن غيره، وبالمقابل غرس فيه الشَّهوة، وسلط عليه شياطين الجنِّ والإنس، فاللَّبيب من استعان لنجاة نفسه بما خُوِّل فيه على ما سُلِّط عليه وابتلي به، والشَّقيُّ المحروم من انساق وراء الشَّهوة والهوى، وترك ما خلق له وهو به أجمل وأولى.

ومن هاهنا انقسمت عوارض اللَّهو الباطل إلى ما يصدُّ الإنسان عن الطَّاعة ويلهيه عنها بذاته فهو محرَّم بإطلاق، وإلى ما ليس كذلك فلا يحرم منه إلَّا ما يتضمَّن محذورًا شرعيًّا.


وقد بيَّن الله تعالى القسم الأوَّل بيانًا شافيًا بقوله: «إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشَّيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون».
فهي أربعة أشياء أمر الله باجتنابها: ثنتان منها على الجوارح وهي الخمر والميسر، وهما ضدَّان لأصل الاستقامة «كلوا من الطَّيبات واعملوا صالحًا»، وثنتان في القلب وهي الأنصاب والأزلام، فالأنصاب بالتوجُّه والتألُّه، والأزلام للاستعانة، وهما ضدَّان لـسرِّ الوجود «إياك نعبد وإياك نستعين».

فالآية دالة على أنَّ الأعيان والأعمال والأحوال الَّتي تصدُّ عن ذكر الله وعن الصَّلاة محرَّمة تحريمًا يتعلَّق بذواتها لا يُنظر إلى ما خلا من المحذور أو تضمَّنه منها لأنَّ الحظر تعلَّق بذاتها، ولهذا فلما كان كلُّ ميسر حراما، فيُلحق به ما في معناه من النَّرد وغيره، وقد نبَّه شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله إلى أنَّ الشِّطرنج إنَّما حرم لذاته لهذا المعنى.

وكرةُ القدم على ما هي عليه اليوم من أظهر ما ينطبق عليه هذا، فما تتضمَّنه من الإشغال عن ذكر الله وطاعته وعمارة القلب بها وبأصحابها لا يُشكُّ معه في حرمتها على هذا الوجه وأنها مثل النَّرد والشِّطرنج.

وهذا بخلاف النَّوع الآخر من اللَّهو المباح فإنَّه إن لم يتضمَّن محذورًا فلا يحرم، ومع ذلك فينبغي أن لا يشتغل الإنسان منه إلَّا بما يرجع عليه بالفائدة في دينه ودنياه، ولهذا صحَّ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «كل لهو يلهو به الرَّجل باطلٌ منه إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته، فإنَّهن الحق». رواه أبو داود وغيره.

ولو سُلِّم أنَّ الأصل فيها الجواز فقد تضمَّنت من المحاذير ما يجعلها من المحرم باتِّفاق العلماء، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله في جوابه عن حكم اللَّعب بالشِّطرنج (4/461): «وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصَّلاة من مصلحة النَّفس أو الأهل، أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو صلة الرحم أو برِّ الوالدين أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو إمامة أو غير ذلك من الأمور، وقلَّ عبدٌ اشتغل بها إلا شغلته عن واجب، فينبغي أن يعرف أنَّ التَّحريم في مثل هذه الصُّورة متفق عليه، وكذلك إذا اشتملت على محرَّم أو استلزمت محرَّما فإنَّها تحرم بالاتِّفاق، مثل اشتمالها على الكذب واليمين الفاجرة أو الخيانة التي يسمُّونها المغاضاة، أو على الظلم أو الإعانة عليه فإنَّ ذلك حرام باتِّفاق المسلمين، ولو كان ذلك في المسابقة والمناضلة، فكيف إذا كان في الشطرنج والنرد ونحو ذلك؟! وكذلك إذا قدِّر أنَّها مستلزمة فسادًا غير ذلك مثل اجتماع على مقدِّمات الفواحش، أو التَّعاون على العدوان أو غير ذلك، أو مثل أن يفضي اللَّعب بها إلى الكثرة والظُّهور الَّذي يشتمل معه على ترك واجب أو فعل محرَّم فهذه الصُّور وأمثالها ممَّا يتَّفق المسلمون على تحريمها فيها».


فتضمَّن كلامه أنَّ اللَّهو الَّذي يكون مباحًا في الأصل إذا تضمَّن ترك واجب أو استلزم ذلك، أو تضمَّن فعل محرَّم أو مقدِّمة من مقدِّماته أو استلزمه أو أعان عليه فإنَّه محرَّم باتِّفاق المسلمين.

ومن المعلوم المشاهَد الَّذي لا ينكره إلا مكابر أنَّ المبتلين بمشاهدة مقابلات الكرة «سُكْر العالم» يضيِّعون الواجبات من الصَّلوات وغيرها، وخيرهم من ينقر الصَّلاة نقرًا في بيته حتى يعجِّل الرجوع إلى مكانه، وربَّما جعل الشَّاشة بينه وبين القبلة حتَّى لا يضيع منه شيء، وفيها أيضًا من المحرَّم غير إضاعة الواجبات:
كشف العورات
والنَّظر إليها
والتشاحن
ومحبَّة الكافرين من اللَّاعبين
والقمار
وبذل المال في غير حقِّه
وأمورٌ أخرى يكفي كلُّ واحد منها في أن يستقلَّ بالتَّحريم، فكيف بها مجتمعة!؟ فكيف بها في أمر محرَّم لذاته!؟


هذا كلُّه في الأوقات العاديَّة، والأزمنة المتساوية، ويشتدُّ الحال ويعظم إذا كان ذلك في الأوقات الفاضلة ومواسم الطَّاعة، كما هو حاصلٌ هذه السَّنة، إذ موسم الكأس هذا العام يصادف شهر رمضان، فيتحقَّق فيها تمامًا في حقِّ المشتغلين بها من المسلمين عمَّا شُرع لهم في هذه المواسم = وصفُ الإعراض عن ذكر الله وعن الصَّلاة والخوضُ فيما نهوا عنه، فهي في حقِّهم كأس المحادَّة لله ورسوله، والإعراض عن شرعه ودينه، نسأل الله السَّلامة.

وإذ قد وصل الحال إلى هذا فهو إيذانٌ بأنَّ القلوب قد صديت، وأنَّ الرَّان قد أقفل عليها مسالك الهدى إلَّا ما أشربت من أهوائها، فالله المستعان، ولا حول ولَّا قوة إلَّا بالله.